كيف تجمع ثروة من مردود العلب الفارغة؟

ألماني من أصل جزائري يؤلف كتابا عنها

الألماني الجزائري الأصل إدوارد لويننغ
TT

شارك حزب الخضر الألماني في الحكم، بالتحالف مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي)، طوال 7 سنوات امتدت بين عامي 1998 و2005. وفشل الحزب خلال هذه الفترة، من حكم المستشار جيرهارد شرودر، في تطبيق معظم مفردات برنامجه البيئي في ألمانيا بسبب اصطدامهم بالواقع الذي تفرضه الشركات الكبرى.

وهكذا فشل حزب الخضر في فرض برنامج التخلي عن الطاقة النووية لصالح الطاقة البديلة، وفشل في تحديد سرعة السيارات القصوى على الطرقات السريعة، وفشل في وضع حد لقطارات النفايات النووية التي تأتي من فرنسا، ويجري خزنها مقبرتي غورليبن وآهاوس، لكنه نجح في فرض الرسوم العالية على علب وقناني المشروبات والمرطبات. وهو برنامج تم تطبيقه منذ التسعينات، ولم يفرح له حتى بعض أنصار حماية البيئة، لأنه يفرض على الجميع جمع العلب والقناني الفارغة، المضرة بالبيئة، وإعادتها إلى منتجيها.

البرنامج فرض رسما قدره 25 سنتا على كل علبة، و8 سنتات على القنينة الزجاجية، و25 سنتا على القناني البلاستيكية. ويمكن للمواطن أن يجمع القناني، وأن يعيدها إلى المحلات، كي يسترجع الرسوم التي دفعها. ويمكن بالطبع لكل مواطن يتعاطف مع البرامج البيئية أن يستعيد الرسوم التي دفعها، إلا أن البعض لا يجد متسعا من الوقت لجمع هذه العلب والقناني، أو أنه ليس في مزاج يسمح له بذلك، وخصوصا المسافرين، وحضور المسابقات الرياضية، والمهرجانات، والكونسيرتات، وحفلات البوب ميوزك.

هذه الحالة أصبحت مصدر رزق للبعض الآخر حسب القول المأثور: «مصاعب قوم عند قوم فوائد». فظهرت فئة جديدة من السكان، لا يمكن فرزهم كمتسولين، ولا كمتسكعين، ولا كجامعي خرق، وهم جامعو العلب والقناني الفارغة من الشوارع والمزابل. هذا أدى أيضا إلى انقسام ثانٍ في العمل، حسب الاقتصاد السياسي، داخل طبقة «جامعي القناني»، فظهر جامعو علب وجامعو قناني، لأن سعر تسليم العلبة يبلغ 25 سنتا في حين أن سعر تسليم الزجاجة لا يزيد عن 8 سنتات. عدا عن ذلك فإن المحترف لا يود أن «يكسر ظهره» بحمولة القناني الزجاجية الرخيصة، ويفضل عليها بالطبع القناني البلاستيكية وعلب الصفيح الخفيفة.

صار من المعتاد أن يصعد بعض الناس، لا يبدو عليهم أنهم مسافرون ولا متسولون، إلى القطارات ويبحثون في العربات وفي علب النفايات عن العلب والقناني الفارغة. وإذ يترك «محترفو» البحث عن العلب القناني إلى الطبقة الأوطأ منهم، صاروا أيضا يحترفون متابعة أخبار التجمعات الكبيرة التي تقام في المدن مثل، الحفلات الموسيقية المفتوحة، كي يجمعوا من العلب والقناني في ليلة واحدة ما يجمعه «هواة» جمع القناني في سنة.

أحد هؤلاء المحترفين، الذين حققوا ثروة صغيرة من مردودات العلب خلال 14 سنة، هو الألماني الجزائري الأصل إدوارد ليوننغ. ونال ليوننغ، بعد أن أصدر كتابا حول أسرار ومتاعب حرفة جمع العلب، عن جدارة لقب «ملك العلب» الذي أسبغته عليه الصحافة الألمانية. منح «ملك العلب» كتابه عنوان «من العلب الفارغة إلى الكارافان»، وصدر عن دار «إدواردز»، وهو كتاب أنيق بغلاف ملون سميك ومن القطع المتوسط. ونزل عند نصيحة الدار ودفع الضرائب (نحو 1000 يورو) بشكل اعتيادي عن الكتاب، لكنه لم يكشف كم نال من الدار نظير طباعة الكتاب.

انتقل ليوننغ من النوم في الشوارع مع المتسكعين إلى النوم في «كارافان» (عربة رحلات) كبيرة بفضل حرفة جمع العلب. واستطاع تسديد سعر الكارافان من خلال جمع العلب في ثلاثين يوما فقط عام 2010. كان ذلك خلال الصيف، وأثناء جمع العلب في حفلات موسيقية كبيرة، حقق خلالها مردودا قدره 13 ألف يورو.

ويلخص ملك العلب (50 سنة) لزملائه من الهواة سر نجاحه في جملتين بسيطتين: أن تكف عن الجشع، وأن تتصرف بلباقة وكياسة عند استرجاع رسوم العلب في المحلات. انتقل، بفضل حذقه، من جمع العلب في مدينة مونستر، حيث كان يحقق يوميا 30 يورو فقط، إلى العمل في المدن الكبرى، أو حيث تقام الفعاليات الكبيرة، وصار يحقق مبلغ 200 يورو يوميا من جمع العلب والقناني. ويقول إنه تخلى منذ سنوات، طواعية، عن المساعدات الاجتماعية وصار يعيش منذ ذلك اليوم من مردودات العلب الفارغة.

مراسل صحيفة «دي فيلت»، الذي زاره في الكارافان الواقف في منطقة مخصصة للمخيمات في جنوب ألمانيا، قال إن الرجل يمتلك سيارة مرسيدس بيضاء سعرها 7900 يورو، حسب ليوننغ نفسه. وعدا عن الكارافان الذي تتكدس فيه أكياس النايلون المليئة بالعلب، فإن هذه الأكياس تتكدس قرب المنزل - السيارة أيضا. وقدر الرجل عدد ما يملكه حاليا من علب بنحو 3000 علبة، قيمتها 750 يورو. وحقق في الأيام الثلاثة الأخيرة مبلغ 550 يورو، لكنه يخطط لرفعها إلى 1500 يورو خلال الأسبوع الحالي.

في كتابه المذكور يقول ليوننغ إنه يشعر بأن جمع العلب الفارغة أصبح واجبه الحياتي، وقد يقصد أن حرفته صارت تجمع بين جمع العلب من أجل الحياة، وجمع العلب من أجل حماية البيئة. وبعد أن كان مكان نومه في الشوارع يتغير حسب الطقس، صار الكارافان يتنقل به في جولات لا تنتهي في ألمانيا سعيا وراء التجمعات الجماهيرية الكبيرة. أما ساعات عمله الأساسية فتكون مع حلول الفجر دائما، أي قبل وصول سيارات التنظيف وعمال بلديات المدن. ففي هذا الوقت يجمع من العلب ما يسد رمقه لفترة طويلة دون منافسة تذكر.

أنهى ليوننغ قبل فترة طويلة تأهيلا مهنيا أصبح بعده مستخدما في العمل والشؤون الاجتماعية، كما درس سنتين في معهد للتربية، لكنه لم يكمل المشوار، وتناوبت عليه المصائب والمشكلات، ومن ثم مشكلة الإدمان، ففقد عمله وتحول إلى متشرد. ومن ثم أعادت العلب إليه تأهيله الاجتماعي، وكف عن الإدمان، ويبحث الآن عن حياة مستقبلية جديدة ستوفرها له أسعار العلب الفارغة.

القوانين الجديدة التي فرضتها الشرطة الألمانية، والتي صارت تمنع بيع قناني المشروبات في الحفلات الكبيرة العامة، خشية التضارب بها، تصب طبعا في مصلحة إدوارد ليوننغ. لأن هذا يعني بالنسبة له أن المحتفلين سيشترون العلب والقناني البلاستيكية «الغالية»، وهو ما يرفع مردوده من جمع العلب والقناني.

ومع ازدهار تجارة جمع العلب والقناني الفارغة، ومع تراكم أكوام القناني التي تتلقاها الأسواق، وتفشل في إعادتها بسرعة إلى مصانع تدوير الصفيح والبلاستيك، تزدهر أيضا ظاهرة سرقة العلب الفارغة. وصارت الشرطة الألمانية تلاحق لصوص العلب من المحلات، كما تلاحق لصوص النحاس، الذين صاروا يسرقون أسلاك القطارات السريعة. لكن ليوننغ ليس من لصوص العلب وإنما من ضحاياهم، وعليه أن يحرس «رأسماله» جيدا من السرقة، خصوصا أنه يسكن في كارافان ويتنقل للمبيت في العراء أو في المخيمات.

لم يحقق له كتابه «من العلب الفارغة إلى الكارافان» شعبية تذكر بين هواة الموسيقى والحفلات، وصاروا ينظرون باستنكار، ويطلقون الشتائم أحيانا، وهم ينظرون إلى سيارته المرسيدس، ويرون الكتاب الذي يعرضه عليهم للبيع. بل إن البعض صار يؤدي بعض الحركات الماجنة له، بعد أن يعرف أنه حقق الآلاف من جمع علب المشروبات التي يتركونها على أرض الحفلة وقربها. لكن الكتاب حقق مبيعات جيدة في مدينته الأصلية مونستر، في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا، وتقول مصادر دار «أواردز» إنه باع هناك 1500 نسخة. وتقيم «محافل» المتسكعين والمتسولين في مونستر أمسيات له يقرأ فيها شيئا من كتابه الذي حقق نجاحا بين «زملاء المهنة».