المقاهي الثقافية في رمضان.. عادات السمر القديمة بنفس جديد

المفاضلة بينها تعتمد على معايير خاصة تتباين حسب الأشخاص والاحتياجات

المقهى يتيح هامش ممارسة أكبر من حيث نوع المواضيع الفكرية المطروحة للنقاش («الشرق الأوسط»)
TT

قديما نسج الأجداد قصة عشق وهوى مع المقهى، على امتداد ليالي الصيف الرمضانية، تطريها أحاديث سمرهم التي يفصلها صوت ضحكاتهم، وقرقعة فناجين الشاي والقهوة، وتعميرة الجراك. وتعود تلك الليالي الصيفية، ولكن بنغم مختلف باختلاف عازفيه من جيل «تويتر» و«فيس بوك»، فضاء مفتوحا كشف كثيرا من عوراتنا الفكرية، وتعود لتحارب من أجلها أخرى داخل محراب المقاهي الرمضانية.

خطوط الحياة العريضة ترسمها تفصيلات الحياة اليومية، والتي يكاد المقهى في وقتنا الحاضر يسيطر على جزء كبير منها، على اعتبار أن «المثقف جزء من نسيج المجتمع، وهو لا يختلف عن هذا النسيج في الخطوط العريضة للحياة اليومية».. كما أبان الصحافي خالد ربيع السيد.

يبدو أن المفاضلة بين المقاهي على كثرتها تعتمد على معايير خاصة تتباين حسب الاحتياجات، وفي كثير من الأحيان يلعب المزاج دور البطولة في الاختيار الذي تحدده «جودة المشروبات ونوعية الشيشة، بينما يلعب الديكور دورا جاذبا في المفاضلة، ولا سيما أن المثقف يفضل أن يتعامل مع أكثر الأماكن تحضرا ورقيا»، إلا أن ذلك لا يمنع الحضور العتيق للمقاهي الشعبية، ذات الديكورات البسيطة، طالما أنها تحقق ما وصفه ربيع بـ«النفع المعرفي».

ويخضع ارتياد مقهى بعينه على سلوكيات المثقف التي تختلف باختلاف طريقة التفكير ورؤيته لدور المقهى، في حين يلعب القرب المكاني أحيانا كثيرة دورا كبيرا في الاختيار، الأمر الذي يقول عنه ربيع إنه «أصبح الازدحام ظاهرة تجبر السعوديين على عدم الابتعاد عن المنزل»، إلا أن البحث عن راحة نفسية مفقودة توفرها بعض المقاهي، يظل له قصب السبق عند ربيع.

نقطة الحسم في اختيار المقهى، غالبا ما ترجح كفة اختيار الأصدقاء لتصب في صالح العادة والتقليد المتبع لاجتماع «شلة يجمعها تقارب المستوى الفكري، والمجال العملي»، كما أوضح ربيع، وهو ما يبدو واضحا في بعض المقاهي التي على الرغم من بساطتها لكن اثنين لا يختلفان على تحقيقها لأجواء رمضانية، وقدرتها على جمع شتات مختلف الأطياف الفكرية مثل مقهى النخيل.

المقاهي التي وصفها الأديب الحجازي محمد حسن عواد بأنها «دفاتر تاريخ ومناهج اجتماع ومراجع سياسة وكتب آداب ومؤشرات اقتصاد أحيانا»، يعتبرها ربيع واحدا من أهم العوامل مساهمة «في تشكيل الوعي المعرفي والثقافي والتواصل الاجتماعي المثمر»، مستندا إلى مقولة العواد في تشبيهه للمقهى بالجامعة الشعبية، لا تحتاج لتصاريح قبول أو شهادات، لتجعل الشخص مؤهلا للاندماج في تراب المكان.

ووفق نظرية يتداولها الوسط الثقافي، مفادها أن امتلاك مقهى يتيح هامش ممارسة أكبر للحرية، من حيث نوع المواضيع الفكرية المطروحة للنقاش، وبالتالي اختيار ضيوف المقهى من الوسط الثقافي والإعلامي، فقد أخذ كثير على عاتقهم الدخول في متاهات تجارة الحقيبة الثقافية، عبر المقهى في نسخته الجديدة، في محاولة منهم لركوب موجة العصر، وتحريك المياه الفكرية الراكدة من دون إحداث فيضانات فكرية تأخذ في طريقها الأخضر واليابس. وهو ما يحاول الإعلامي كمال عبد القادر غرسه من خلال مقهى «أرومشي». إلا أن الرياح قد تجري بما لا تشتهي السفن، حيث كان من نصيبه ذلك، عندما تفاجأ بكم العوائق التي تعترض مثل إقامة هذه الملتقيات الفكرية، داخل مقهى في السعودية، أولها «الاصطدام بنظام المجتمع الأكثر حساسية وهو الاختلاط من قبل جهاز الهيئة»، على الرغم من البدايات التي وصفها عبد القادر بـ«الجيدة» لـ«أرومشي» عندما حاول استقطاب شريحة لا بأس بها من الشباب، وتحفيزهم للبدء بتكوين مجموعة أطلقت على نفسها «الفالوذج»، أخذت على عاتقها مهمة اختيار كتاب وتوزيع قراءة فصوله كل خميس، المجموعة التي بدأت بستة أشخاص، تمكنت من توسيع دائرتها خلال سبعة أشهر لتصبح 148 شخصا، كما أبان عبد القادر، مما دعاه للاكتفاء بمزاج مرتادي المقهى من القراء، لتقليب المكتبة الموجودة بالمقهى، التي تحوي 6000 كتاب «يتم تجديدها باستمرار». بينما اكتفت بعض المقاهي بأن تكون ملاذا للكتاب الجدد الباحثين عن أماكن تتبنى إقامة حفل توقيع لإصداراتهم وهو حال مقهى «أندلسية». ويأتي امتلاك المثقف للمقهى ضمن ما وصفه ربيع بـ«قيامه بهذا الدور من مكان أسسه بنفسه وجعل منه ملتقى للنخبة، وبكل تأكيد سيجد متسعا في ممارسة ذلك الدور بحرية أكبر عنه في حالة ما إذا مارسه من خلال ناد ثقافي أو ملتقى رسمي»، مؤكدا على أن ارتياد هذا النوع من المقاهي يكفل «الشعور بالحميمية لمرتاديه، لأنهم ببساطة يجدون به هامشا أوسع للحرية».

انتشار المقاهي الذي ارتبط كثيرا بارتياد شريحة الشباب لها، مقابل إغلاق النوادي الأدبية والثقافية أبوابها واكتفائها بالنخبة الأكاديمية، عمل على إعادة ولادة مهمة قديمة للمقهى، في شكل أكثر تطورا وهي نقد الأعمال الأدبية لجيل الشباب، الباحثين عن نقد بناء يحفظ لهم شرف المحاولة الأولى من دون أن يحبطهم وبشكل تلقائي بسيط «يقربنا من القارئ العادي، ونستطيع أن نتلقى ردود الأفعال على العمل الأدبي بشكل مباشر»، وهو ما أوضحته الروائية نسرين غندورة.

ولأن الذائقة الأدبية تختلف من شخص لآخر، ناهيك عن اختلافها جملة وتفصيلا عندما تتحسس مذاقها الأكثر مرارة من النقاد، يأتي تذوق جمهور المقاهي للأعمال الأدبية بطعم أخف وطأة وأكثر حلاوة، تهضمه المواهب الصاعدة، الأمر الذي ينعكس بشكل إيجابي على «صقل الموهبة والارتقاء بأسلوب الكتابة ليكون أكثر ملامسة للواقع».

ويأتي تعدد أطياف ومشارب جمهور المقهى، بالإضافة للتعددية العمرية، كلاعب مهم وصاحب تأثير على المواهب الجديدة كما أبانت غندورة، التي تجد في تجربة المقهى إضافة جديدة تختلف كليا عن تجربة الصالونات الأدبية بنخبويتها النقدية، بينما تعتبر نقد المقاهي نوعا من «الترفيه البناء الذي تقوم به المقاهي، لتوجيه طاقات الشباب».

وفي زمن التواصل الإلكتروني، يظل البحث عن هوية أدبية هاجسا يدفع بالكثيرين نحو بوابة مواقع التواصل الاجتماعي التي هي أشبه بمقاه افتراضية، كما أوضحت غندورة، حيث يشعرون خلالها بأنهم «أقل خجلا وأبعد عن عين الرقيب»، مما يجعلهم «أقل تحفظا في التعبير عن أفكارهم». إلا أن ذلك لا يلغي التواصل الإنساني المباشر الذي توفره المقاهي، لجيل الكتاب الجدد، باعتباره «قيمة مضافة، حيث يعمل على تقييم العمل الأدبي بشكل أفضل، من خلال تحسس أثر الكلمة في وجوه رواد المقهى».