شارع النيل وسحر الأمسيات الرمضانية في الخرطوم

يتحول المكان بعيد الإفطار لمقهى ومتنزه ضخم

TT

ما أن تضع شمس المدينة الحارة عصا التسفار عند الأصيل، يهرع الناس في الخرطوم إلى «شارع النيل»، ليستعينوا بنسيمات تهب من النهر، وبجمال الغروب على «قسوة» الصيام في صيف السودان الحارق.

لم يعد النيل «سجينا» كما كان، فقد تحرر من أسره القديم عقب تشييد «شارع النيل الجديد»، الممتد من «المقرن» عند التقاء النهرين شرقا مع تعرجات «النيل الأزرق» إلى بعيد ضاحية «المنشية» الثرية.

كان الناس قبيل تلك «التوسعة» في شغل عن النهر، إلا من «ارتبطوا» به من صيادين، وصناع مراكب، أو عشاق ضاقت بما في قلوبهم جدران المدينة ووسعه النهر، لعل غموضه يدسهم عن الأعين المتلصصة، أو الشرطة التي يتحسس أفرادها «مسدساتهم» كلما رأوا «عاشقين يلفهما دفء»..! طوال سنين ما كان الناس يعيرون ذاك الجمال الذي تخفيه البنايات الحكومية الكالحة و«الجناين» البائسة، لكنه «تبرج فجأة» وتحول إلى مكان يسبي العقول ويذهل الألباب اسمه «شارع النيل».

في شهور الناس العادية فإن الشارع متنزه ممتد على طول تلك المسافة، أما في شهر «رمضان» فإن المكان يأخذ وضعا خاصا، تقصده الأسر، مثلما يقصده العزاب والطلاب وزوار المدينة، لـ«شم النسيم» وتناول طعام الإفطار في ذاك الجو البليل.

تأخذ الأسر إفطارها، وتفرش مفارشها لتستمتع بإفطار طلق بعد صوم شديد الحرارة، ولا يقتصر المكان على الأسر، فعلى جانبيه تمتد الكراسي والمفارش الخاصة ببائعات أطعمة الإفطار الشعبية والشاي والقهوة، اللاتي يقدمن خدماتهن لـ«العزاب» من الزبائن..

ويشهد المار بذاك الطريق أعدادا كبيرة من الناس محتشدة في المكان، كأن المدينة أفرغت «أثقالها» من البشر وألقتها فيه، فيتيه الشارع بمحاذاة النيل الأزرق معاكسا تيار النهر، كأنه يصنع خريرا موازيا للماء، دبيب السابلة، وكعوب أحذية النساء، وصوت طبل يرجح، وصوت ناي يئن، أتي به متنزهون ضاقت بهم جدران البيوت.

يتماوج شارع النيل مقلدا النهر حتى منطقة «المنشية» ويعبر الجسر الجديد المسمى بذات الاسم، ثم يتوقف الشارع فجأة تاركا النهر وحده ومياهه تمتد حتى «الهضبة الإثيوبية» وبحيرة «تانا».

البائعات اللاتي يقدمن وجبة الإفطار من المشروبات من سحنات وجنسيات مختلفة «بنات الأمهرا، والقادمات من شرق وغرب البلاد وكل أنحائها»، يبعن وجبات الإفطار الشعبية «أم جنقر، المديدة، الآبري، وشراب الكردكدي والعرديب، وعصيدة الدخن»، لناس يقدمون من أجلها خصيصا.

بعيد الإفطار يتحول المكان لمقهى ومتنزه ضخم، تسمع فيه أصوات سنابل الخيل وهي تجر «الحنطور»، وتنقل الباحثين عن الترويح والمحبين من بداية الشارع إلى نهايته، علها تعيد بعض رومانسية أضاعها الزحام.

وبعض «أثرياء» المدينة وكلابهم من نوع «الوولف» يأخذون حصتهم من «الفسحة» اليومية حتى لا يصيبهم الاكتئاب، وهناك ذوو الأجساد الضخمة من الجنسين، وهم «يخبون خبا» لعلهم ينقصون بضعة كيلوات من الشحم والدهن.

«منتدى الأحبة» واحد من المنتديات التي نشأت هكذا في المكان، يقول مؤسسه «أمير التلب» إنهم ثلة أصدقاء خرجوا لـ«شم النسيم» قرب النيل، وتطورت جلسة أنسهم إلى منتدى للموسيقى والشعر يؤمه الناس من كل السحنات والطبقات.

«فطوم» سيدة من غرب السودان، من دارفور، وهي من مجموعة ثقافية اشتهرت بجودة طعامها، تبيع للناس «عصيدة الإفطار»، بأنواع مختلفة من الإدام، «أم دقوقة، ملاح الروب، الكول، والويكاب»، وهي وجبات شعبية يأتيها طالبوها وغالبهم من غرب السودان، تقول فطوم: «من لم يحجز باكرا لن يجد عصيدة دخن»، الوجبة والمشروبات تكلف زهاء العشرين جنيها (3.5 دولار) تقريبا.

محمد علي، وحسن موسى، وعبد اللطيف يوسف، وعيسى آدم أصدقاء، يلعبون الورق في الشط، إلى «وقت السحور»، يقول محمد نحن نزجي الوقت، ونلعب «الهارت والوست» لنستطيع التغلب على صوم النهار، أما بقية القوم فيستمتعون بشراب القهوة والشاي ويقضون الليل في أنس حميم.

هكذا أعاد «شارع النيل» للخرطوم بعض ألقها القديم، بعد أن كانت مدينة بلا متنزهات، لكن «الهلع» القديم من ثورة «حاكم المدينة» الذي قد يلغي كل شيء دون إبداء أسباب، يلقي بظلاله على ضفاف النفوس والنهر الصخاب.