أوبرا «البوهيمي» تتألق بمهرجان سالزبورغ في فيينا

تخلى مخرجها عن الديكورات الكلاسيكية واتجه لتصوير مظاهر الحياة العصرية

السوبرانو الروسية النمساوية العالمية آنا نتربكو في مشهد من أوبرا «البوهيمي» التي عرضت ضمن فعاليات مهرجان سالزبورغ بالنمسا (أ.ب)
TT

بأزياء حديثة وبسيطة تحمل بصمات «تقليعات» أيامنا هذه، وبمكياج عصري أكثر بساطة، ازدادت السوبرانو الروسية النمساوية العالمية آنا نتربكو بهاء وهي تلعب دور «ميمي» في رائعة بوتشيني «البوهيمي» التي يتم عرضها هذه الأيام ضمن فعاليات مهرجان سالزبورغ الصيفي الذي يوصف بأنه من أهم المهرجانات الدولية وأكبرها سنا؛ إذ استهل أول عروضه عام 1920.

تعد أوبرا «البوهيمي» واحدة من أشهر أعمال المؤلف الموسيقي الإيطالي جاكومو بوتشيني، وكان قد قدمها للمرة الأولى عام 1896 بمدينة تورين مجسدا دراما موسيقية لقصة حب دارت مشاهدها بالحي اللاتيني في باريس، كتبها من أربعة فصول تنتهي بموت بطلتها مصابة بداء السل، بين يدي الحبيب الذي عاقه فقره عن توفير دواء لها.

ومن مميزات مهرجان سالزبورغ، كمثيله مهرجان بريغنز، أنهما لا يتورعان في الأغلب عن تقديم عمل مسرحي رئيسي قوامه أوبرا خالدة يعالجانها وفق مداخلات خاصة قد لا تلتزم التزاما صارما بروح العمل كما صاغه مؤلفه الأصلي.

في سياق كهذا، وفي تجربة شجاعة كتب لها نجاح فاق كل التوقعات، يقدم مهرجان سالزبورغ أوبرا «البوهيمي» في نسخة عصرية كاملة الحداثة من حيث الأزياء والديكور والشكل العام، محتفظا بالحبكة الأصلية، وبدلا من باريس في ثمانينات القرن التاسع عشر، اكتفى المخرج بنماذج لمعالم حياة اليوم ومظاهر العولمة وطغيان الحياة الاستهلاكية، مستعينا بديكور لم يكلفه ميزانية ضخمة وإنما مجرد مجسدات ورقية أحسن إعدادها وتركيبها، بالإضافة لما لعبته أزياء الممثلين واختيارهم ملبوسات «مودرن» من تلك النوعيات الشعبية التي تباع في المحال التجارية ذات السلاسل والأفرع المنتشرة عالميا سواء في باريس أو دبي أو نيروبي أو هونغ كونغ، وبالطبع لم يغفل المخرج أن يخصص مشهدا كاملا بجوار كشك لبيع «طعام سريع» ناهيك بوشم ملون وظاهر في عنق آنا نتربكو وتصفيفة لشعرها اجتزت فيها مقدمته في قصر متناه تاركة مؤخرته أطول قليلا لينسدل منسابا دون اهتمام، وإن اهتمت بطلاء أظافرها بلون أسود سواد صباغ شعرها فبدت مثل كثيرات من شابات اليوم.

رغم كل تلك الحداثة المظهرية.. فإن الأوبرا نجحت في تجسيد فكرة بوتشيني التي كتبها في عام 1840، سيما أنها لم تتعد على ركائز أحداث الأوبرا كما صاغها بوتشيني واستهلها بطرق من الفنانة «ميمي» على باب شقة جارها بحثا عن قداحة بعد أن انطفأت شمعتها اليتيمة، ولم تكن القداحة لإنارة الشمعة بل لإشعال سيجارة فهي مدمنة تدخين رغم ما يسببه لها من سعال وكحة تكشف أنها داء السل.

وبالطبع اشتعل الحب من أول نظرة بين الجار «رودلفو» الشاعر المفلس وجارته الأكثر إفلاسا «ميمي» الفنانة صاحبة الصوت القوي، فانضمت لزمرة أصدقائه ممن يحلو لهم الأنس في شقته الفوضوية؛ ومنهم الموسيقار، والمفكر، والرسام، والفيلسوف، ممن يؤمنون إيمانا جازما بعبقريتهم وهم قعود ينتظرون الشهرة دون أن يقلل الفقر من إحساسهم العميق بالسعادة وإن أكلوا مرة كل يومين أو «تطعموا» وتركوا في خدعة طريفة فاتورة المقهى ليدفعها ثري عجوز صادفوه برفقة صديقة قديمة لرودلفو.

وكما نجحت أوركسترا «فيينا فيلهارمونيكا» في لعب معزوفات بوتشيني بروعة لا توصف، نجح صوت آنا نتربكو في تجسيد المواقف العاطفية المتأججة التي تطلبت حنجرة قوية كحنجرتها المدهشة، دون أن تخذلها في المواقف الدرامية الحزينة، فأبدعت وهي تجسد معاناتها لفراق حبيبها الذي لم تدر سبب هجرانه لها رغم حبهما الكبير، إلى أن سمعته وهو يحكي لصديقه دون أن يراها في مشهد أشبه بحالات الاعتراف السينمائية أنه قد تركها لعجزه عن مساعدتها في تكلفة العلاج بعد أن خاف أن يقرضها (يستهلكها) مرض لا يعرف كنهه وهي تذوب وتتلاشى أمامه.

وكان المخرج قد لجأ إلى الحرفية السينمائية في أكثر من مشهد، فجاءت الأوبرا معتمدة على هياكل سينمائية، مما زاد من جرعات العصرية في العرض الذي لم يرهق ميزانيته ألبتة، مستعيضا بملصق ضخم لخريطة للعاصمة الفرنسية باريس عليها أسماء الأحياء، ولمزيد من الحداثة ودون تكلفة تذكر أيضا، قدم مشهدا خفيفا وحيويا للحي اللاتيني أثناء احتفالات بعيد الميلاد شارك فيها كورال أطفال المهرجان وهم يحملون صناديق الهدايا التي تضمنت ما يماثل أجهزة إلكترونية مما يعشقه صغار اليوم.