«الشتا اللي فات» .. الثورة المصرية كحالة وجدانية

يوميات مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي - 4

الشتا اللي فات»
TT

* الشتا اللي فات إبراهيم البطوط

* يكسر المخرج إبراهيم البطوط حاجز الخوف عند مخرجين مصريين آخرين مختلفين عن السائد بطريقته الخاصة التي يعتمدها لسرد أفلامه. على عكس مخرجين جيدين آخرين، لديه القليل من الوقت يمضيه لتأليف الحبكة كما اعتاد المشاهدون عليها، والأقل من ذلك ليقلق عما إذا كان الجمهور المصري خصوصا، والعربي عموما، خارج نطاق المهرجانات، سيقدر هذا المنحى من العمل أم لا.

في فيلمه الجديد «الشتا اللي فات» كانت لديه فرصة لينسج فيلما يستفيد فيه من رغبة الجمهور تلقف عمل روائي آخر عن ثورة يناير (كانون الثاني) المصرية. فيلم يسري نصر الله «بعد الموقعة» لم يكن الجواب الذي توقعه المشاهدون (بدا محتارا في شأن أي جانب يمكن له أن يتبنى من دون أن يخسر الجوانب الأخرى). الأفلام القليلة الأخرى التي خرجت حول هذا الموضوع كانت تسجيلية (مما يعني أنها محدودة الانتشار) أو كوميدية مع خلفية تتحدث عن حتمية الثورة أو ما بعدها («حظ سعيد»)، لكن فيلم إبراهيم البطوط هو الذي يصيب هدفه في الحديث عن تلك الثورة من دون الحاجة إلى مشاهد لها أو منها (باستثناء مشهد أخير واحد وقصير المدة). ما فعله المخرج هو أنه لم يرغب في السهل وحافظ على مكتسباته السابقة مثل «إيثاكي» و«عين شمس»، ثم أضاف عليها. المنحى الجديد الذي يؤمه رفع درجة حضوره الفني إلى سقف جديد بينما لا يزال يسلط الضوء على كامل التجربة الفردية في حياة بطله.

بطله هنا هو عمرو (ويؤديه بتلقائية مدهشة عمرو واكد) الذي يعيش، مع أحداث يوليو (تموز) 2011 وحيدا في الشقة من بعد وفاة والدته. يعيش ولا يريد الخروج. حين يريد أن يأكل يطلب من بواب البناية أن يشتري له بعض المعلبات. حالته ميسورة فلديه أكثر من كومبيوتر، ولعل عمله الأصلي هو التصوير أو العمل في المحيط البصري، ذلك أنه حين تتقدم منه مذيعة تلفزيونية تمردت على النصوص الرسمية التي كانت تقدمها في تلفزيون حكومي، لبث رسالتها إلى المتظاهرين يفعل ذلك بسهولة وإدراك، لكن الأهم أنه يفعله بإيمان بأن هذا هو دوره الجديد.

عمرو يعيش داخل شقته تجنبا لاحتكاك جديد مع السلطة، ففي ذروة حرب غزة سنة 2009 تم اعتقاله من قبل رجال الأمن المركزي حيث اقتيد للتعذيب من قبل الإفراج عنه. لكن الثورة الحالية تتمادى وتتفاعل وتنتشر بحيث لم يعد هناك حاجة للبقاء منزويا.

الأحداث تنتقل، زمنيا وبسلاسة، بين هذين التاريخين وبين عمرو وأحد الضباط المرهوبين في سلطة أمن الدولة اسمه عادل (صلاح الحنفي) وكاميرا البطوط (بإدارة فيكتور كريدي) ترصد بقوة أعصاب تدعو للإعجاب بما يحدث خلال التحقيقات من دون أن يلجأ إلى العنف. صريح وغير مباشر. فني المعالجة في كل الأحيان. إنه حالة وجدانية تنأى بعيدا عن العاطفة المجانية وتؤسس لمستوى من المعالجة الذهنية لم يصل إليها فيلم آخر.

يتحاشى المخرج المواقف العاطفية (ولا يعني ذلك أنه لا يكن عاطفة ما)، والخطابية. وليس لديه أي شأن بتكبير رد فعل معين لأجل أن يسجل به موقفا أو يجذب إليه رد فعل جاهزا. حتى الحوار محسوب وهادئ وملقى بطريقة مختلفة عن أي فيلم آخر.

مرة أخرى، كان الموضوع أهلا لأن يتحول إلى فيلم تقليدي حتى من دون أن يخسر موقفه المؤيد للتغيير الذي حصل، لكن ذلك على حساب مخرج ليس هنا لسرد قصة بالطريقة المتبعة ولا لتقديم فيلم سيحبه الجمهور لأنه يتحدث بما اعتادوه. ليس الفيلم غامضا ولا رمزيا ولا صعبا، بل هو الفيلم الجيد كما يجب أن يكون، ومفتاح جودته هو تلك المعرفة بما يعنيه تخليص العمل من شوائب الرغبات والتنازلات، وتقديمه كقراءة مزدوجة: شخصية لمخرج مؤلف يحمل رؤيته التعبيرية الخاصة والعامة لبطله الذي يتجاوب مع المعطيات بدافع من إيمانه بأن الإنسان خلق ليحيا كذلك. في هذا السياق، لا كلمات تكفي لكي تصف ملاءمة عمرو واكد للدور ومدى نجاح تشخيصه للحالة المنشودة.