الرجل والمرأة في أفلام فينيسيا

يوميات مهرجان فنيسيا السينمائي الدولي (5)

الممثلة ألبينا جانابييفا في «خداع»
TT

من بين ما أفرزته الأفلام المعروضة حتى الآن وجود أكثر من مرشح يستحق جائزة أفضل ممثل أو أفضل ممثلة. هذا ليس وضعا تلقائيا وتحصيلا حاصلا لا بد منه. في كثير من الدورات السابقة هنا أو في مهرجانات أخرى، طالعتنا الكثير من الأفلام التي لم يسجل لها تميز في إطار التمثيل، ناهيك باستخدام ممثلين جيدين في أدوار غير مناسبة، أو الإتيان بممثلين يؤدون أدوارهم بتعميم.

هذه السنة، وحتى الآن، لدينا أكثر من ممثل وممثلة يستحق الإشادة، إما تبعا لموهبته وإما تبعا لنجاح مشروع اندماجه في الشخصية التي يؤديها. وبالأمس فقط شاهدنا نموذجين من هذا النوع: جواكين فينكس وفيليب سايمور هوفمان في فيلم بول توماس أندرسون «السيد» (The Master).

ما يفقده فينكس من حضور بدني (هزيل البدن) ومن وسامة متعارف عليها، يعوضه عبر توظيف هذا «النقص» المبدئي لموازاة الشخصية التي يقوم بها. فجأة بدنه وحركاته وتصرفاته ووجهه الدقيق هي ما يجب أن يكون عليه الشخص الذي يقوم بأدائه في الفيلم فريدي كويل. السيناريو لم يكتب بهذه المواصفات الجسدية، لذلك فإن ما قام به فينكس من سعي لتجسيد تلك الشخصية فعل شامخ يعيد طرحه كأحد أبرز ممثلي جيله (في سن السابعة والثلاثين هو أصغر من جوني دب وتوم كروز وقريب من براد بت). لكن فينكس لا يتوقف عند هذا الحد. يضيف إلى شخصيته شكليا ما يتلاءم وفحواها الداخلي، فيمشي محدودبا، خصوصا عند الانفعال. أما في الداخل فإن ما يتفاعل في نفسه واضح وإن لم يكن بمتناول أحد آخر التعبير عنه بنفس الطريقة.

«السيد» هو الفيلم الذي قيل فيه الكثير من حيث إنه يهاجم كنيسة «السيانتولوجي» الغامضة، تلك التي ينتمي إليها توم كروز وجون ترافولتا من بين آخرين. وهو بالتأكيد فيلم موازٍ من دون أن يسمي الأشخاص والأسماء بحذافيرها. والعنوان يدل على صاحب ذلك التوجه الفلسفي والديني في الفيلم لانكاستر دود الموازي لشخصية ل. رون هوبارد في أفكاره وتنوعات مضاربه من النشاطات والأعمال. في الفيلم لانكاستر دود، كما يؤديه فيليب سايمور هوفمن، يدعو لعلاقة فلسفية بين الروح والحياة، معتبرا أن الإنسان أبدي الحياة وأنه على نوعين، نوع مرتقٍ وآخر لا يزال «حيوانا»، كما يقول. وفي قراءات فإن الكنيسة المذكورة تحاذي هذا الاعتبار وتضيف، من بين ما تضيف، شرائح من الأفكار المستحدثة حول الإنسان وتاريخه على الأرض الذي يتجاوز ملايين السنين (!) وهذا وارد في الفيلم كما وارد أيضا اعتماد دود، باعتباره رئيس الحركة الفلسفية التي نتابعها، على التمارين التي تستطيع تحويل الإنسان الفطري إلى إنسان «كامل».

لكن الفيلم يبرهن عن زور هذه الأفكار، وفريدي هو تجسيد لهذا الفشل وعدم قدرة الإنسان على أن يكون كاملا، فهو بعد كل التمارين وحشو الأفكار يفلت هاربا، ولو أنه يضطر إلى العودة إلى مجتمع دود بعدما تم لهذا تدمير قدرته على البقاء مستقلا.

في هذا الخضم، هناك تمثيل مدهش آخر في هذا الفيلم هو ذاك الذي يوفره هوفمن. والمخرج يعرف أي ممثلين ضخمين لديه فيكثر من تلك المشاهد التي تعرض أداءهما وفهم كل منهما للدور الذي يؤديه. ولن يكون مفاجئا على الإطلاق إذا ما دخل الاثنان عراك الأوسكار معا. المهم هنا هو أن هوفمن يظهر الفراغات الكثيرة في كيانه، الثقوب المتكاثرة في فهمه وشخصيته. هو في أكثر من مشهد ليس سوى شخص «غير متكامل» و«يلتقط الأفكار بينما هو مسترسل في حديثه»، كما يقول ابنه (جيسي بليمونز) عنه.

إلى نوعية مختلفة جدا من الأداء ننتقل إلى ما تبديه الممثلة ألبينا جانابييفا، وهي ممثلة روسية لديها باع مسرحي وسينمائي طويل وشهرة قصيرة الأمد تقوم بدور البطولة في الفيلم الروسي المشارك هنا تحت عنوان «خيانة». الفيلم بحد ذاته مركب دراميا على نحو غير متوازن. بعض الألغاز التي يطرحها لا جواب عليها أو لا جواب شافيا لها على الأقل. لكن بصرف النظر عن هذه النقطة، هناك تمثيل بارع من هذه الممثلة التي تستطيع فعل كل شيء بأقل درجة من التعبير في الملامح، مؤكدة أن التعبير الزائد يعمل على عكس النتيجة المطلوبة دراميا وفنيا (وهو أمر نلحظه أيضا في أداء عمرو واكد في فيلم إبراهيم البطوط «الشتا اللي فات» كونه قائما على أقل درجات التعبير المعتادة).

في «خيانة» نرى جانابييفا تلعب دور طبيبة تستقبل في أحد الأيام رجلا أراد الكشف عن قلبه. عوض النتيجة التي ينتظرها (سماع عبارة أن «قلبك ممتاز» أو «قلبك في خطر») يفاجأ بالطبيبة تخبره أن زوجته تخونه مع زوجها. هذا هو المنطلق لكل ما يأتي بعد ذلك من أحداث (نترك النقد لحين آخر). جانابييفا لا تغيب عن معظمها وتعكس حالات امرأة محرومة وشريرة ومسكينة وفاتنة ومدانة من دون أن يكشف وجهها عن الحالة التي هي عليها. قد تبتسم هنا أو تغمض عينيها هناك لكن كل شيء واضح في داخلها (أكثر وضوحا مما يود الفيلم قوله في بعض الأحيان).

لكن في مقابل هذه النماذج المذكورة أعلاه، هناك ذلك الأداء الذي يسبب الحيرة لبعض الوقت، وهو ما نجده في أداء الأميركي دنيس كوايد لاعبا شخصية المزارع الذي لا ينوي التوقف عند حد في تجارته، وذلك في فيلم رامين بحراني «بأي ثمن». في البداية يبدو كوايد كمن لو كان يبحث عن المفتاح الذي سيساعده على فتح أسرار الشخصية، والمؤكد أنه لم يجده إما بسبب الكتابة وإما لأنه لم يجد من العناصر ما يكفي لاتخاذها منفذا. نصف الساعة الأولى من ظهوره يبدو كما لو كان يبحث عن مقبض للدور، لكن الوضع يتحسن بدرجات كبيرة في الساعة التالية من الفيلم، لدرجة أن بعض ما يعتري الممثل من حالات قلق تصبح لازمة صحية لما يعتري الشخصية من قلق أيضا. بما أن الفيلم يدور في موقع واحد فإنه من المرجح جدا أن يكون تصوير الفيلم تم - عموما - بالتسلسل الذي نراه مرتسما، ما يعزز ما ذهبت إليه هنا.

المفاجأة الطيبة في هذا الفيلم الأداء الذي يقدمه زاك إفرون. ممثل في الرابعة والعشرين من العمر لعب أدوارا شبابية في أفلام عابرة مثل «17 مرة أخرى» و«تشارلي سانت كلاود» و«مطلع رأس السنة»، لكنه هنا يجد الدور الذي يتيح له الانتقال بحرفته إلى مستوى الإجادة. إنه ابن دنيس كوايد في الفيلم، عمد إلى شخصيته بتأنٍّ ودراية للمطلوب منها ووفر مراحل الدور بقناعة. هو الابن الذي يحمل رفضا لوالده، وخروجا عنه وحبا للرياضة واللهو من قبل أن يعود إلى العائلة، مقتنعا بأنها الغطاء الوحيد الذي سيؤمن له مستقبله. في كل ذلك هو قابل للتصديق وجيد في تأليف أحاسيس مرهفة.