السينما العربية في المهرجانات الدولية: الكيل بمكيالين

يوميات مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (6)

المخرج ميشال خليفي (يمين) يتحدث الى بطل الفيلم محمد بكري
TT

ميشال خليفي مخرج فلسطيني حررت أفلامه الأولى، في مطلع الثمانينات، العقل الغربي من النظر إلى المسألة الفلسطينية من زاوية أفلام البروباغاندا التي سادت تلك السينما في السبعينات. «الذاكرة الخصبة» (1980) و«عرس الجليل» (1987) استقبلا بحفاوة كبيرة في زمنيهما، سنوات طويلة قبل أن يخرج من تلك السينما مخرجان آخران عرفا النجاح هما رشيد مشهراوي وإيليا سليمان. الأول لم ينجز كل ما كان موعودا منه، في حين تمكن سليمان من تحقيق إنجازات عالمية تذكر بتلك التي حققها خليفي في زمنه.

تسأله، إذ وصل إلى هذا المهرجان في زيارة خاصة، أين أنت؟ يضحك بابتسامته العريضة ويقول، «أنا هون». تريد أن تعرف المزيد فيجيب: «هناك بعض المشاريع التي أشتغل عليها لكن المسألة ليست مادية. هناك تمويل لكن ليس هناك توزيع».

ميشال خليفي وصل إلى دورة المهرجان الحالية بدعوة، لكن ليس من قبل المهرجان؛ لأن المهرجان لا يعرف له فيلما، بل من قبل المنتج المصري أحمد مناويشي صاحب شركة أروما التي أسهمت فعليا في تمويل «الشتا اللي فات» لإبراهيم البطوط والذي عرض هنا في مظاهرة «آفاق» آملا، ونحن معه، في أن يحظى بجائزة هذه المظاهرة.

أحمد المناويشي لديه، حسب حديث بيننا، اثنا عشر فيلما: «بدأنا بهذا الفيلم ولن نتوقف، وكل أعمالنا سوف تكون ذات قيمة نوعية لأن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والاستمرار».

اللقاء بين المخرج والمنتج لم ينته بعد، لكن المخرج حذر: «الاستقلالية عندي هي أهم شيء وأهم شيء عند الفنان ولن أبدأ العمل على أي فيلم جديد مع أي من كان إلا بعد ضمان هذه الاستقلالية».

فيلم ميشال خليفي الأخير «زنديق» فاز بجائزة مهرجان دبي الأولى سنة 2010 لكنه لم يفز بأي عرض تجاري باستثناء فرنسا (في شتاء العام الماضي).. ولم يتقدم أحد لشرائه، يقول لي وهو ينظر إلى جموع المحتشدين لمشاهدة فيلم سويدي قبل عودته لعقد اجتماع أخير قبل سفره في اليوم التالي. تساءلت ماذا كان سيحدث في التاريخ لو أن هذا الفيلم الذي يشهد تلك الحشود (وهو بعنوان «بلوندي» وليس أكثر بكثير من «سوب أوبرا» تلفزيوني) كان من نصيب فيلم لهذا المخرج.

- لماذا «زنديق» لم ير النور في أوروبا حيث تعيش؟

«لأن هناك هامشا ضيقا للمخرجين العرب. عليك أن تكون مع وليس مستقلا.. ناهيك عن أن تكون ضد».

يفتح ميشال خليفي صفحة إعلان في مجلة «فاراياتي» الأميركية. الإعلان عن مجموعة إنتاجات إسرائيلية معروضة في المهرجان (من بينها اثنان في المسابقة). ينزل بأصبع الإشارة إلى حيث يكمن فيلم من إخراج هيام عبـاس بعنوان «تراث». الفيلم هو الروائي الأول للممثلة - المخرجة الفلسطينية التي تعيش وتعمل في باريس. يضيف: «هذا هو الجانب الذي يريدون للسينما الفلسطينية أن تنضوي تحته.. أن تكون من إنتاج مؤسسة الدعم الإسرائيلية. هذا ما يرحبون به».

خليفي لا يتحدث بنبرة غضب، ولا هو معارض للتعاون مع مخرجين إسرائيليين. لقد فعل ذلك سنة 2004 حين عمل مع المخرج الإسرائيلي أيام شيفان على فيلم تسجيلي طويل من 270 دقيقة عنوانه «الطريق 181: شظاها من رحلة في فلسطين - إسرائيل». لكن ما يسترعي انتباهه هو أن تقسيم المخرجين العرب إلى فئات يضعه في تلك التي لا ظهر لها. «زنديق» بحد ذاته كان فلسطينيا إماراتيا، بريطانيا، بلجيكيا. كلفته المحدودة كانت سبيل خليفي للحديث عن نفسه من خلال شخصية مخرج فلسطيني عاد إلى فلسطين من بلد هجرته (يعيش خليفي ويدرس في مدينة بروكسل) ليجد نفسه غريبا. يومها قال إن هذا كان شعوره أيضا إذ وجد نفسه بين عالمين.

بالنسبة لإبراهيم البطوط فإنه يعيش حاليا وضعا أفضل من أي وقت مضى: فيلمه وجد قبولا لدى فئات المشاهدين، محترفين وهواة، والجهد الذي بذله المخرج وفريق الإنتاج ومنهم الممثل عمرو واكد، أثمر عن أفضل فيلم أنجزته السينما المصرية عن أحداث يناير (كانون الثاني) 2011.

لكن ما يثير الملاحظة (وقدر لا بأس به من الاستغراب) أن «الشتا اللي فات» إذ تم إرساله إلى إدارة هذا المهرجان لعله يدخل شريحة الأفلام الرئيسية المتسابقة انتهى إلى المسابقة الثانية. ليس أن أهل الفيلم يشكون من ذلك. هم فرحون بما أنجزوه وبالاحتفاء الإعلامي الكبير الذي حققوه، لكن حين تكتشف وجود فيلم فرنسي يتحدث بدوره عن ثورة أخرى، لكنه أضعف عملا وأقل خيالا من «الشتا اللي فات» لا بد أن تتساءل عن السبب الذي تم بسببه قبول الفيلم الفرنسي وليس الفيلم المصري.

الفيلم الفرنسي هو «قبل أيار - مايو» (ولو أنه يحمل بالإنجليزية عنوانا آخر تماما هو «شيء في الهواء» والثورة التي يتحدث عنها هي تلك الشبابية في مطلع السبعينات، التي بالقياس بثورة 1968 المعروفة، لم تكن سوى حركة لـ«جيل الزهور» كما كان اسمهم في ذلك الحين: أؤلئك الذين خلطوا بين تحقيق الرغبات السياسية والعاطفية والفنية ولم ينجزوا في أي من هذه المجالات الكثيرة مما شكل معالم مستقبل أكيد.طبعا، هي ليست المرة الأولى التي نجد فيها فيلما عربيا جيدا خارج المسابقة مقابل أفلام ليست أفضل منه حالا.

فيلم البطوط نفسه فوجئ بأن مهرجان تورنتو لن يعرضه مفضلا عليه فيلم يسري نصر الله «بعد المعركة». وسؤال البعض كان: «على أي أساس قام العارضون بتفضيل فيلم على فيلم؟». ما هي الأسس التي تم اعتمادها للاكتفاء بفيلم واحد عوض فيلمين.

المسألة مهمة لأن تورنتو مهم، فهو سوق السينمات المختلفة على السوق الأميركية وموسم الجوائز فيه. لكن يبدو أن المشرفين على برمجة الأفلام لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا كانت لهم تحبيذاتهم الخاصة.

فينيسيا كانت له حساباته الخاصة بخصوص فيلم عربي آخر لا يزال مثل الجوهرة الصغيرة المدفونة تحت قليل من الرمال ينتظر من ينفضها عنه. إنه فيلم لمخرج مصري جديد اسمه (لا يجوز ذكر اسمه وعنوان الفيلم حتى لا نحرق احتمالاته الأخرى) أنجزه في مطلع هذا العام وبعث به إلى إدارة المهرجان التي بعثت له برسالة شكر وبعدم رغبتها به. هذا الناقد شاهد الفيلم فإذا به من صنف أفلام المهرجانات بلا ريب. صحيح أنه مصنوع بميزانية محدودة، لكن هذا لم يكن سابقا ولا يجب أن يكون اليوم أو في الغد السبب وراء عزوف مهرجانات السينما عن اختياراتها. إنه عمل مثير للإعجاب إلى حد كبير مستخلص مما قامت عليه سينما انغمار برغمن سابقا من عناصر درامية ومواجهات شخصية في أفلام محصورة داخل بيت واحد.

كل ما سبق، وسواه مما تراكم من متابعات ومشاهدات، يشي بأن هناك معيارين تمارسهما معظم المهرجانات الدولية ويمكن تلخيصه بالشكل التالي: الفيلم الغربي عليه أن يتحلى بسقف معين لقبوله في المسابقات الرسمية، لكن الفيلم العربي عليه أن يتحلـى بسقف أعلى بضعفين أو ثلاثة لأجل قبوله. والواضح أن الانتشار الحالي للأفلام العربية في المهرجانات، ذلك الذي بدأ فجأة في العام الماضي، يعود إلى سبب أساسي وهو أن العالم العربي في الأخبار وعناوين الأحداث العاصفة. فإذا كان فيلم من وزن وقيمة «الشتا اللي فات» لم يستطع الوصول إلى مسابقة «فينيسيا» أي فيلم يستطيع؟

طبعا، سيقال دوما أن هناك مهرجانات عربية تفي بالغرض، لكن هذه ليست النقطة هنا، كما أن المهرجانات العربية، في معظمها، تمر حاليا في مخاضات عسيرة والسينما الآتية من الأركان العربية تحارب من أكثر من طرف وجهة عربية قبل سواها، ما يحدو بالمخرجين العرب إلى مواصلة التوجه إلى المهرجانات الدولية على أساس أنها قد تمنحهم ما يحتاجون إليه من دعم في حلقة مفرغة تعيدنا إلى ما بدأنا هذا التقرير به.

أفلام «فينيسيا»

* الفيلمان الأكثر منافسة على الجائزة الذهبية حتى الآن

* « The Master» (السيد) - إخراج: بول توماس أندرسن.

- تمثيل: واكين فينكس، فيليب سايمور هوفمان، آمي أدامز، لورا ديرن.

- تقييم الناقد: (3*) (من خمسة) الحرب العالمية الثانية انتهت وفريدي (فينكس) يلعب على رمال الشاطئ لعبا غير بريء. رفاق السلاح ينظرون إليه ثم ينظرون بعيدا. هو لا يبالي. رجل على الفطرة ولديه تاريخ من المصاعب النفسية والعقد التي تفرز تصرفاته العنيفة التي سنراها في أكثر من موقع في هذا الفيلم. في الحياة المدنية من جديد يحن إلى صديقة من بلدته اسمها دوريس ويعمل من حين لآخر مصورا فوتوغرافيا وذات مرة يتعارك مع رجل بسبب ضيق حاق به عندما أخذ يقرب مصابيح الإضاءة إلى وجه الرجل حتى كاد يحرق وجهه. حين دفع الرجل المصباح بعيدا عنه شاكيا، أمسك فريدي بياقته والاثنان بدآ مشادة. فريدي، النحيل، لم يكن من وزن وقوة خصمه فهرب. في اليوم التالي وجد نفسه على ظهر باخرة صغيرة يملكها رجل غريب الأطوار اسمه لانكاستر (هوفمن) الذي يقدم نفسه ككاتب ورحالة وفيلسوف من بين مهن أخرى.

لانكاستر يجد في فردي حيوان اختبار لفلسفته المتعلقة بالحياة والروحانيات والصلة بينهما وبين تاريخ الإنسان وواقعه. من هنا يدخل الفيلم في محاكاة مع ما قامت عليه كنيسة «السيانتولوجي» التي كانت، لحين قريب، من أكثر الكنائس غموضا. لانكاستر بذلك هو رديف لمؤسس تلك الكنيسة وما نسمعه ونراه من أفكار وممارسات هي ذاتها تقريبا مع تلك التي تمارسها تلك الكنيسة. هل هذا مقصود؟ طبعا. هل هناك قصد من وراء الحديث عنها؟ هذا ما هو غير معلوم. الفيلم ليس في وارد الدعاية لها، بل هو ينتقدها ويصور بطله تائها وسط ضبابيات أحاسيسه ومصالحه الخاصة. زوجته (أدامز) ربما كانت أكثر وعيا منه لكنهما معا بعيدان عن التسليم بأهمية ما يؤمنان به. وسط هذا العالم سيمضي فريدي حياته وبالتدريج سوف يفقد هويته من دون أن ينجح في اكتساب هوية جديدة.

الفيلم سينجز الضجة التي خبأ لها واستعد، لكن من الصعب معرفة ما إذا كان سينجز النجاح النقدي ذاته الذي حققه فيلم المخرج السابق «سيكون هناك دم» (There Will Be Blood) قبل ثلاث سنوات. بعد التمهيد وانتقال الفيلم من الباخرة إلى اليابسة يفقد الفيلم شحنته من الدوافع والكثير من حرارة الحدث. مصور بفاعلية ومنفذ بعناية لكنه ضعيف في الفصل الثاني منه، ذلك الذي يلي التمهيد ويسبق الخاتمة.

* «To The Wonder» (إلى العجب) - إخراج: ترنس مالك - تمثيل: أولغا كوريلنكو، بن أفلك، خافييه باردم، راتشل ماك أدامز.

- تقييم الناقد: (4*) (من خمسة) فتح أحد النقاد البريطانيين المخضرمين دفتر ملاحظاته وسحب قلمه واستعد ليكتب ملاحظاته حول فيلم ترنس مالك الجديد «إلى العجب». بعد 117 دقيقة حين انتهى الفيلم كانت الصفحة لا تزال بيضاء. السبب بسيط: لا يمكن تسجيل شيء خلال العرض لأنه لا شيء قابل للتحول إلى انطباعات ولا حتى إلى ملاحظات... بالتالي لا يوجد ما يمكن كتابته خلال العرض.

إنه فيلم فذ لمخرج هو الوحيد من نوعه في العالم. هذا ما يمكن كتابته. لا شيء يمكن تلخيصه حول القصة لأنها تكاد ألا تكون موجودة. ولا شيء يمكن الحديث فيه عن قضايا وطروحات (شغلة البعض المفضلة) لأنه فيلم فلسفي أكثر مما هو تطبيقي. وحتى على الصعيد الفني، لا يوجد هناك تلك المراجع التي يمكن الاستشهاد بها حين النظر إلى الأسلوب أو الرغبة في الحديث عنه.

على ذلك، هو أقرب إلى تحفة أخرى من أعمال هذا المخرج. فيلم يحتوي على فكرة تدمج ما يحدث بين رجل وامرأتين مع ملاحظاته حول ما يقع في بيئته ثم تدخل في سياق مشروع أكبر عن الحياة والخليقة والمفاهيم التي يريد الفيلم طرحها والتعامل معها. بن أفلك هو الرجل، والممثلة الجديدة أولغا كوريلنكو هي الفتاة الفرنسية التي كان التقى بها وأحبها ومعا يشدان الرحال من باريس (بعد نحو ربع ساعة من كاميرا تسبح فوق المعالم وتموج كالعشب البحرية) وبصحبتهما ابنتها الصغيرة من زواج سابق. الرجل متمنع عن الزواج بها، لذا هي قلقة وغير راضية. تتركه بعدما بعثت بابنتها لتبقى لجانب أبيها، وتأخذ بالبحث عن عمل في نيويورك مصطدمة بحقيقة أنها تحتاج لفيزا (غرين كارد). تعود إلى من تحب وتقنعه بالزواج منها. لكن في خلال غيابها يتعرف على امرأة أخرى ويحب. ليس فيلما عن رجل فالت من عقاله بل بالأحرى عن رجل هو، مثل بطله شون بن في فيلم مالك السابق «شجرة المعرفة» حائر في الحياة المعاصرة التي يعيش فيها.

ومثل ذلك الفيلم ليس هناك من قدرة على قراءة منهج فني. المخرج قد يترك الممثل يتكلم متوجها بالكاميرا إلى منطقة أخرى وبذلك يصبح ممثله خارج اللقطة. فجأة، بفضل توليفه السلس، الممثل في اللقطة التالية والكاميرا ما زالت تتحرك في الانسياب نفسه. لا يمكن إحصاء عدد اللقطات التي يتألف منها الفيلم، ولا تقع موقع اللقطة المقبلة أو رصد تتابعها على منهج ما. الحوار هو ما يمكن عد كلماته لأنه محدود جدا.

السيناريو لا بد كتب كفكرة ولا بد أنه عولج خلال التصوير؛ لأن كل ما نراه له علاقة بمكان التصوير ذاته. التصوير هو الذي يختار السيناريو وحركة الكاميرا هي ما تؤلف الفيلم.