سدوس.. أقدم مستوطنة بشرية في الجزيرة العربية تتحول إلى أطلال

تحتضن قصرا للنبي سليمان ومسلة لافتة ونقوشا قديمة

بئر مياه قديمة في سدوس
TT

تعد سدوس القريبة من الرياض باتجاه الشمال الغربي واحدة من أقدم المستوطنات البشرية في منطقة وسط الجزيرة العربية، وعرفت باسم القرية، واحتضنت معالم أثرية في غاية الأهمية، لعل أهمها مسلة لافتة عليها نقوش وكتابات تعود إلى عصور قديمة تؤكد أهمية البلدة كإحدى الحواضر في الجزيرة العربية.

وردت سدوس على لسان البلدانيين وبعض الرحالة الأجانب الذين تحدثوا عن معلم أثري هام كان موجودا بها قبل عقود، والمتمثل في البناء المشيد بالحجارة والمنسوب للنبي سليمان بن داود، إضافة إلى معالم أخرى كالمسلة «المنارة». كما اشتهرت سدوس بإنتاج نوع من الرمان له مذاق طيب بلغت شهرته الآفاق، ولم يعد له وجود حاليا.

ولعبت سدوس دورا بارزا في العصرين الجاهلي والإسلام، حيث كانت البلدة تحتل موقعا على أحد طرق الحج القديمة الذي ذكره مؤلف كتاب «المناسك وطرق الحج»، كما لعب بنو سدوس دورا بارزا في الجاهلية والإسلام، حيث أنجبت البلدة الكثير من الفرسان وقادة الفتوح والعلماء والشعراء على مر العصور.

وتقع سدوس في أعلى وادي وتر، وتبعد عن الرياض 70 ميلا باتجاه الشمال الغربي، وعلى بعد ثلاثة أميال من جهة الشرق منها تقع حزوى التي كانت تعرف بالسدوسية ووردت في أشعار القدماء، وتمتد البلدة على حوض سدوس، وهو الجزء الأعلى من وادي وتر «صلبوخ» ويبلغ طوله 26 كيلو، وتكون الحوض نتيجة عمليات التعرية التي استمرت آلاف السنين.

وأوضح لـ«الشرق الأوسط» الباحث والمؤرخ وعضو اتحاد المؤرخين العرب عبد المحسن بن محمد بن معمر، أن سدوس واحة استقرار بشري موغلة في القدم، وعلى الرغم من عدم توفر معلومات كافية عن تاريخ ذلك الاستقرار، فإنه يرجح قِدَمه لعوامل عدة أسهمت في ذلك الاستقرار، أهمها: المياه ثم جودة التربة، وقربها من أهم الطرق في وسط الجزيرة العربية، ثم وجود مناطق رعوية وغابات تعتبر جيدة في الشعاب والأودية المحيطة بها.

يوجد بالمنطقة القصر القديم الذي ينسب بناؤه لسليمان بن داود عليهما السلام، والذي كان موجودا في حي المنارة في سدوس، وكذلك الكتابات القديمة على حجرين عثرت عليهما جامعة الملك سعود في سدوس في التسعينات من القرن الماضي، ونقلتهما لمتحف الجامعة بالرياض.

وكذلك الكتابات والنقوش القديمة التي عثر عليها الباحث المعمر في السلسلة الجبلية شمال سدوس، وهي أحرف مسند جنوبي يقدر عمرها ما بين 2000 إلى 3000 عام تؤكد لنا قدم ذلك الاستقرار، إلا أن أول استقرار ذكرته المصادر التاريخية في المنطقة هو لقبيلة هزان الأولى البائدة، ثم تلاها استقرار قبيلتي طسم وجديس قبل الميلاد، وكان نفوذ طسم يشمل بلادا واسعة منها سدوس، ثم سكن المنطقة بنو سدوس بن شيبان من بني ذهل، وبنو حنيفة، والجميع من بكر بن وائل، وكان استقرارهم فيها قبل الإسلام بقرنين من الزمان تقريبا.

وفي صدر الإسلام استجاب بنو سدوس لنداء الحق واشتهر بعض الصحابة السدوسيين، وبعد أن ارتد بعض بني حنيفة ومن جاورهم شاركوا في حروب الردة في العام الحادي عشر الهجري التي حدثت بالقرب منهم في ملهم وبوضة «أباض» والهدار وعقرباء في جيش مسيلمة.

ثم بعد صلح خالد بن الوليد مع بني حنيفة لم تدخل سدوس «القرية» في ذلك الصلح، مما تسبب في أسر كثير من أهلها وترحيلهم للمدينة المنورة، وهذا الإجراء مع حروب الردة ساعد على تخلخل سكان سدوس ونقصهم.

ثم قامت بعد ذلك بنحو خمسين عاما في أباض «بوضة» دولة زعيمها نجدة بن عامر الحنفي، واتسعت دولته وشملت البحرين «المنطقة الشرقية» والطائف وحضرموت واليمن، وكانت عاصمتها أباض «بوضة» وهي على مقربة من سدوس، مما ساعد على الاستقرار والنمو السكاني في سدوس في ذلك الحين.

وسدوس كبقية الحواضر النجدية تتعرض لتخلخل بشري؛ إذ تؤثر سنوات الجدب والجفاف والأمراض والحروب والهجرات، خصوصا مع الفتوحات الإسلامية، على عدد السكان فيتناقصون ويهاجرون بشكل شبه جماعي لتلك المناطق المفتوحة، وبقيت سدوس عامرة بالسكان والزراعة، ومن أواخر من تكلم عنها ياقوت الحموي المتوفى في الربع الأول من القرن السابع الهجري، ويظهر أنها بعد ذلك التاريخ بدأت في العد التنازلي في عدد سكانها إلى أن هجرت تماما، وبقيت عبارة عن أطلال مبان وآبار معطلة، وفي عام 850 هـ وبعد شراء حسن بن طوق التميمي للعيينة من آل يزيد من بني حنيفة ضم سدوس لنفوذه.

وبدأت سدوس عهدا جديدا من النمو السكاني من ذلك العام، وبعد سقوط الدولة السعودية الأولى عام 1233 هـ انتقل بعض سكان الدرعية الذين انتقلوا إليها من العيينة إلى سدوس واستقروا فيها، وحينما تكلم «لوريمر» في كتابه «دليل الخليج» عن سدوس ذكر أن عدد منازلها 160 منزلا، 80 منها لآل معمر، و20 لسبيع، و60 لبقية السكان، في حين أن حزوى تبلغ منازلها 25 منزلا، 10 لبني تميم، و6 لسبيع، و9 لبقية السكان.

نشأ بلد سدوس على ضفاف أعالي وادي وتر «صلبوخ»، وقام على مكان سبق الاستقرار البشري عليه، لكنه خلال فترات مجهولة اندثر وكادت تختفي معالمه بشكل جزئي أو كلي، غير أنه ما يلبث أن تدب فيه الحياة؛ لكونه موقع استقرار بشري، فكل فترة زمنية ولعدة عوامل وأسباب يعاد تعميره، ويأخذ اسمه القديم أو اسما جديدا.

وقد ذكر بعض المؤرخين وعلماء المنازل والديار قلاعا وحصونا في القرية «سدوس» منها القصر القديم، وجوفاء بني سدوس وهي قلعة عظيمة.

ولنشأة سدوس وإعادة تعميرها عوامل وأسباب، أهمها توفر المياه والتربة الصالحة للزراعة، والموقع والأمن، وقدرة السكان على استثمار هذه العوامل، بالإضافة إلى عوامل بشرية وطبيعية أخرى.

وتظل المياه من أهم العوامل التي أسهمت في تطور العمران فيها، حيث تسهم سيول شعاب وادي وتر في إمداد المزارع بالمياه، ثم في رفع مخزون المياه الجوفية، كما أسهمت التربة إسهاما فعالا في نشأة وتطور البلد؛ إذ لتربته الرسوبية الصالحة للزراعة دور فاعل في قيام وازدهار الزراعة فيه، واختيار مناطق السكنى والتوسع العمراني الذي تلا ذلك، وكان لموقع سدوس المتوسط في نجد، وتربعه على أحد الطرق المهمة في الجزيرة العربية، تأثير ملموس في تطوره ونموه العمراني.

لقد نما عمران سدوس وأنشئت فيها القلعة «حي البلاد» وشيد لها سور محكم وأبراج جيدة، ولا يزال موقعه وقربه من العاصمة يعطيانه بعض التميز والدافع للنمو العمراني.

ولقد مرت سدوس بمراحل من النمور العمراني كغيرها من الحواضر، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، إلا أن مرحلة النشأة الأولى لا تزال مجهولة وإن كان أقدمها ينسب لعصر سليمان بن داود عليهما السلام، غير أن تلك الأبنية اندثرت، ثم أعيد بناء البلد وتعميرها قبل الإسلام بقرنين من الزمان تقريبا على يد بني سدوس بن شيبان بن ذهل من بني وائل، وأصبحت بلدا عامرا مدة ليست قصيرة، ثم مر بمرحلة الشيخوخة أو الضمور البشري والعمراني حتى عام 850 هـ، حيث أعاد له حسن بن طوق التميمي حيويته، وبدأ في النمو العمراني من جديد، وتدل بقايا آثار عمرانه وأسواره على بعض من مراحل نموه وتطوره، حيث كانت تشغل مبانيه في القرن التاسع الهجري جزءا يسيرا من حي «البلاد»، يحيط بها سور محكم، بينما يحيط بالمزارع سور آخر ما زالت بعض بقايا أبراجه قائمة، ولكنه دمر مثل بقية أسوار البلدان على يد قوات إبراهيم باشا بعد سقوط الدرعية عام 1233هـ، ولقد أسهم خراب العيينة وسقوط الدرعية في القرن الثالث عشر الهجري في زيادة عدد سكان سدوس الذين انتقلوا من البلدتين، مما أسهم في نموه العمراني، فتم توسيع القلعة (البلاد) من الجهة الشمالية، وهي المنطقة من برج آل عبد العزيز أو آل جميعة إلى برج آل محمد، وأضيفت للقلعة لمقابلة النمو السكاني، وقد مر «لويس بلي» على سدوس وسجل انطباعاته عنه، وذلك في الثالث من مارس (آذار) عام 1865م، ومما قال عنه في كتابه «رحلة إلى الرياض»: «لقد توقفنا هذا المساء في سدوس التي كانت عبارة عن مجموعة مزارع صغيرة وجميلة ولطيفة، اجتمع بعضها إلى البعض الآخر في الوادي حول حصن صغير.. لقد كانت المنازل وجدران الحدائق في سدوس أنيقة ومتصلة، مما يدل على عدم وجود العدوان والعنف».

ليس هناك قرى بالمعنى المعروف، ولكنها مزارع في بعضها دور متناثرة في المزارع حول (حي البلاد) الذي سماه بلي (بالحصن)، أشهر هذه الدور هي حي البديع، وهي مجموعة من البيوت لا تتجاوز الثلاثة إلى الغرب من حي البلاد.

أما لويمر فيعتبر أول من حدد عدد منازل سدوس، وذكر أن منازله 160 منزلا. بينما حدد عدد منازل حزوى بـ25 منزلا، هذا هو العمران المتجمع الأول، تلاه عمران متجمع آخر، إذ أنشئ حي الرأس عام 1305هـ، وبعد الاستقرار الأمني الذي شهدته المملكة على يد الملك عبد العزيز بدأ التوسع في القلعة (حي البلاد) خارج السور بإضافة بعض الغرف، ثم أنشئ (حي جدة) عام 1343هـ تلاه (حي مصدة) عام 1350هـ ثم (حي المنارة) عام 1360هـ تقريبا، وهي أحياء مبنية من الطين، وأدخلت مادة البناء الإسمنتي مع الطيني بعمل قشرة خفيفة على السطوح وفي الأرضيات، وجل تلك الأحياء الطينية قد انهارت مبانيها في الوقت الحاضر.

وفي عام 1398هـ تمت مرحلة جديدة من العمران بالإسمنت المسلح بقرب شعيب رميلان، كالمبنى الذي يشغله مركز سدوس وما حوله، وهو أول مبنى بالخراسانة المسلحة في سدوس، وفي عام 1401هـ بدأت مرحلة العمران في الحي المخطط على النظام الحديث (حي المرقب)، وبعد ذلك تم اعتماد مخططين أحدهما غرب (قارة عصيدان) والآخر (غرب حي المرقب).

يتوقع أن تستوعب النشاط العمراني في المستقبل القريب.