«مملكة النمل».. فيلم يحكي عن الهوية الفلسطينية في الذاكرة الحاضرة

شوقي الماجري: كل مشهد وحرف ومقطع منه له قصته معي

مشهد من الفيلم
TT

9 سنوات من الانتظار والحلم استغرق خروج فيلم «مملكة النمل» إلى النور (بسبب تعثر إيجاد ممولين له)، الذي يتناول القضية الفلسطينية والمعاناة التي تسود إيقاع أنفاس أهلها في الحياة اليومية إلى درجة الاختناق، مما يجعل حتى الشعور بالحب لحظات من الأمل القليلة التي يعيشونها والمغلفة كما غيرها من المشاعر بالدم والموت.

ففي حفلتين متتاليتين لعرض أول للفيلم، جرت الأولى منها في 8 من الشهر الحالي (في صالة سينما متروبوليس في الأشرفية) والثانية في 12 منه (في سينما مركز غالاكسي التجاري في الشياح) لبى أهل الإعلام والصحافة في لبنان الدعوة لمشاهدة قصة مصورة تنبع من صميم الحياة العربية طرّزت مشاهدها بأداء ممثلين بارعين أمثال صبا مبارك (لعبت دور بطلة الفيلم جليلة)، ومنذر رياحنة (لعب دور طارق حبيب جليلة)، وعابد فهد إضافة إلى الممثل جميل عواد الذي جسد دور الجد الملقب بـ«أبو النمل». أما حبكة الفيلم وقصته اللتان سبق وتم تناولهما في أكثر من عمل سينمائي، فقد حاول كل من الكاتب خالد الطريفي والمخرج التونسي شوقي الماجري الذي شاركه التأليف إلى جانب مهمته الأساسية، وهي إخراج الفيلم أن يخرجاه عن العادية من خلال استخدام نص مقطّع وسريع إلى حد ما وكاميرا نقية تنقل حركة الممثلين بوضوح وعن قرب، إلى حد يجعل المشاهد يشعر وكأنه واحد منهم ويعيش معهم.

وعلى الرغم من بعض الكليشيهات المتكررة في هذا النوع من الأفلام، التي سبق ولاحظناها في نسخ سينمائية عربية مشابهة، إلا أن المخرج استطاع التوفيق ما بين الحلم والحقيقة من خلال مواقع التصوير الأسطورية التي اختارها لمشاهد الرومانسية والزواج، والتي دارت في مغارة ضخمة فيها كثير من السحر والجمال على الرغم من أنها مسكونة من النمل والهياكل العظمية لشهداء من فلسطين. المشكلة التي قد يعاني المشاهد منها أثناء متابعته فيلم «مملكة النمل» هي الوقت الطويل الذي استغرق عرضه مدة تتجاوز الساعتين، مما أفقده متعة التلذذ بإيقاعه المنحوت بتأنٍّ من قبل المخرج، التي لا يبقى منها في الذاكرة سوى القليل بسبب شعوره بإطالة غير مطلوبة في منهج السينما الهادفة والفارغة إلى حد ما من الإثارة والحماس.

ويقول المخرج شوقي الماجري في هذا الصدد وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» إن طول الفيلم أو قصره يدخل في لائحة العنصر العضوي (organic)، وإن مسألة الزمن هي نسبية وشخصية تعود لإحساس المشاهد، وإنه ليس هناك من قاعدة في هذا الموضوع تتبع في صناعة الأفلام الحقيقية البعيدة عن التجارة، وأضاف: «المهم أن لا يشعر المشاهد بالملل، ومهما بلغت الملاحظات على هذا الموضوع، فأنا لن أقدم على عملية قيصرية لتقصيره لأنني أريده أن يبقى كما ولد تماما فيه من الحب والحزن والعاطفة بتفاصيلها الصغيرة، ليشعر المشاهد بجماليتها فتتشبع أفكاره بها، لأن مهمة المتفرّج العربي شبيهة إلى حد كبير بالصلاة التي يؤديها في حياته اليومية عندها لا يجب أن يفكّر بالوقت الذي تستغرقه.» وأضاف: «كل مشهد وكل حرف وكل مقطع منه له قصته معي فهو بمثابة طفل أنجبته وربيته بتأنّ». ورأى الماجري الذي عرفه الجمهور العربي من أعمال دراما تلفزيونية بينها مسلسل (أسمهان) أن الفيلم له عالمه الخاص ويتأرجح ما بين الأسطورة والشعر، وهو بمثابة رحلة تعليمية عن أصول الأشياء وجذورها، وتجلّى بإبراز المعاناة الفلسطينية من باطن الأرض الفلسطينية. وسألت «الشرق الأوسط» المخرج عن إمكانية تطور السينما العربية والكف عن تغميسها الدائم في الدم والحروب، وأجاب: «هذا هو واقعنا؛ فلماذا نهرب منه؟ ثم من لديه أفكار مقاومة لا تتغلف بالدم أو العدوانية من أهل الثقافة والإبداع في العالم العربي فليزودنا بها، لأن هذه القضية لن نتركها؛ فهي تسري في دمنا وأجسادنا».

وعن رأيه في الانتقاد الذي طال الفيلم، والذي اعتبره البعض مجرد مسلسل طويل لم يستطع المخرج الإفلات من إيقاعه، كونه اعتاد إخراج المسلسلات التلفزيونية فقط، أجاب الماجري: «لا يمكن تشبيه فيلم بمسلسل فالأول تحكمه عناصر عدة، وأهمها التقيد بنص مكتوب لمدة زمنية معينة يسيطر عليها الطابع التجاري في غالبية الوقت، بينما الفيلم هو قصيدة شعرية لا يمكنك أن تنقص من أبياتها أو العكس، حتى لا تفقدها جماليتها ويحاك بطريقة مغايرة تماما عن المسلسل، سواء من جهة التقنية المستخدمة أو إيقاع التصوير ومشاهده».

ويحكي الفيلم الذي ساهمت شركة «إيه آر تي» في إنتاجه قصة نضال تنتقل من جيل إلى آخر من أجل البقاء في أرضها، وقد استخدمت فيه مشاهد تصوير فوق الأرض وتحتها لإبراز معاناة الشعب الفلسطيني، الذي يحتفل بلحظات سعادته غالبا تحت الأرض كما النمل تماما (هو إيحاء مفتوح المعنى للنمل المثابر والمنظم). فالشابة جليلة (صبا مبارك) تحب طارق المقاوم للاحتلال الإسرائيلي وتتزوجه وتحمل منه في مملكة النمل (تحت الأرض)، لا حواجز فيها ولا دبابات بل مجرد دهاليز وإنفاق توجد فيها عناصر الحياة التي تشير إلى أن باطن الأرض عالم لا يملكه سوى أصحاب الأرض، ويجري ذلك بمباركة جدّها «أبو النمل» (جميل عواد) الشخصية الأسطورية في الفيلم. وينقل إلينا صورة واضحة عن أجيال ثلاثة: جيل الأسبقين المتمثل بـ«خضرة» المرأة العجوز التي أشرفت على مناسبات عدة من الأتراح والأفراح ترعى شجر الزيتون وتقف بوجه المحتل دون خوف (جسدت دورها الممثلة الأردنية جولييت عواد وجيل اليوم المقاوم والمتصدي للمستعمر كرسالة مقدسة، مثل طارق الذي يضحي بحريته ولا يرى ابنه وزوجته 15 عاما وجليلة التي تلد في السجن وتأخذ على عاتقها تربية الناشئة وتعليمهم وجيل الغد جيل الانتفاضة الذي لم يعش طفولته وتسلّح بالحجارة وبالرغبة في طلب العلم وتحقيق الحلم.

ولا ننسى الممثل عابد فهد الذي جسد دور الضابط الإسرائيلي الظالم فبرع في تأديته إلى حد كبير.

أما بطل الفيلم منذر رياحنة فرأى في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن هدف الفيلم التأكيد للشعب الفلسطيني أننا لن نتركه أو ننساه، وقال: «أردنا أن نقول في هذه الحدوتة إننا لن نخرج من أرضنا مهما بلغت بنا المصاعب، وفلسطين وترابها عزيزان علينا، ولن نطلع منها، بل سنبقى عليها أو فيها، بمعنى إما أحياء كما سكانها وإما شهداء يلفنا ترابها».

ورأى أن أي عمل فني يقوم به يستنفد منه جميع طاقاته، وأن دوره في «مملكة النمل» أداه كما غيره من المشاركين فيه بشفافية عالية، كونه عاش معاناة الفلسطينيين عن قرب ووصف نفسه بالشرقي بامتياز، وأنه كان يحلم بتقديم عمل محترم يوازي المرحلة التي نعيشها والفكر والحضارة والتاريخ العربي التي ترعرعنا عليها، إذ لا ينقصنا أي شيء لنصنع اللحظات والحالات الحلوة على كل المستويات. يذكر أن الفيلم يبدأ عرضه في صالات السينما في لبنان ابتداء من 20 من الشهر الحالي، كما سيتم عرضه قريبا في الأردن وتونس والجزائر.