إدارة الغذاء والدواء الأميركية: منتجات النانو تحتاج لمزيد من التدقيق

دعوات عالمية لزيادة البحوث والتغطية الإعلامية حول المخاطر المحتملة لتكنولوجيا النانو

لم يتم بعد تحديد خصائص المواد على مقياس النانو بشكل جيد من حيث الآثار المحتملة التي يمكن أن تحدث على الكائنات الحية
TT

لا تزال البحوث والاستثمارات والمنافسات العالمية الواسعة والمكثفة حول الآفاق والتطبيقات الواعدة لتكنولوجيا النانو (التقنيات المتناهية في الصغر)، تجري على قدم وساق، بينما البحوث والاستثمارات المتعلقة بمخاطرها للتأكد من أمنها وسلامتها على الصحة والبيئة، لا تزال قليلة، كما أن التغطية الإعلامية حول مخاطر تكنولوجيا النانو لا تزال دون المستوى المطلوب.

وتكنولوجيا النانو توصف بأنها تصميم وإنتاج وتطبيق المواد والأجهزة والأنظمة والتحكم في شكلها وخواصها وحجمها، بحيث لا يزيد على حجم الذرة والجزيء، ومصطلح «نانوتكنولوجي»، مشتق من الكلمة الإغريقية «نانوس» (nanos)، وتعني «القزم» أو الشيء المتناهي في الصغر، والنانومتر هو مقياس مقداره واحد من ألف مليون من المتر، حيث يبلغ قطر الشعرة الواحدة من شعر الإنسان نحو 80 ألف نانومتر، وقطر خلية الدم الحمراء يبلغ نحو 700 نانومتر، ويبلغ قطر جزيء الماء نحو 0.3 نانومتر، ويرجع الاهتمام المتزايد بهذه التكنولوجيا إلى أن صغر الحجم يعطي خصائص كيميائية وفيزيائية جديدة فريدة ومتميزة ومفيدة، تختلف اختلافا كبيرا عن خصائص الأحجام الكبيرة الأصلية للمواد المستخدمة.

وهناك حاليا استخدام متزايد وواعد لتكنولوجيا النانو في المنتجات الاستهلاكية والأدوية ومنتجات مواد البناء والتشييد، في مجالات تتراوح من الملابس المقاومة للبقع ومستحضرات التجميل إلى الإضافات الغذائية. ومن المتوقع أن تشهد توسعا سريعا خلال العقد المقبل، مع تطوير تقنيات جديدة ذات قدرات وميزات جديدة، ولكن على الرغم من هذه الآفاق والتطبيقات الواعدة لهذه التكنولوجيا. إلا أن هناك أيضا حاليا مخاوف ومخاطر وتساؤلات مشروعة حول آثارها المحتملة على صحة البشر والبيئة. ويقول الباحثون إنه لا يزال هناك فهم غير كافٍ حول جوانب وقضايا الصحة والبيئة والسلامة المتعلقة بالمواد النانوية، فالجزيئات النانوية قد تكون قادرة على اختراق الجلد أو الانتقال بين أعضاء الجسم المختلفة وإحداث تأثيرات وأضرار صحية غير معروفة، الأمر الذي يتطلب دائما حاجة ملحة ومستمرة إلى رصد ومراقبة هذه المخاطر، حتى تتمكن الصناعة من تطوير منتجات آمنة للبشر وللطبيعة.

وجدير بالذكر أن وكالة «رويترز» للأنباء كانت قد نشرت في 19 أغسطس (آب) من عام 2009، دراسة على الموقع الإلكتروني لمجلة «يوروبيان ريسبيراتوري جورنال» المختصة بأمراض الجهاز التنفسي، أن 7 عاملات صينيات (18 إلى 47 عاما)، قد توفي اثنان منهم، بعد أن عملوا لعدة أشهر (5 إلى 13 شهرا) في مصنع للطلاء باستخدام الجزيئات النانوية، نتيجة لتعرضهم لضيق في التنفس وارتشاح بلوري، وهو عبارة عن تجمع للسائل بين طبقتي غشاء الجنب (البلورا pleura) الذي يغلف الرئتين ويبطن الصدر، حيث يوجد عادة مقدار ضئيل من سائل التليين بين هذين الغشاءين، وهذا السائل يساعد على تحرك الغشاءين بسلاسة عند التنفس.

ولكن عند الإصابة بالارتشاح البلوري فإن الزيادة في تراكم هذا السائل يمكن أن تعوق عملية التنفس عن طريق الحد من توسع الرئتين للحصول على الهواء أثناء الشهيق. فقد وجد الباحثون أن أنسجة الرئة والسائل الذي يحيط بالرئتين لدى المرضى المصابين، قد احتوت على جزئيات نانوية.

وأشار الباحثون إلى أن دراستهم تعد الأولى التي توثق للآثار الصحية لتكنولوجيا النانو على البشر، على الرغم من أن الدراسات الماضية على الحيوانات قد أظهرت أن الجزيئات النانوية يمكن أن تلحق الضرر بالرئتين عند الفئران. وقال الباحثون إن حالات الإصابة هذه تثير القلق من أن التعرض الطويل لبعض الجزيئات النانوية ومن دون اتخاذ تدابير وقائية، ربما يكون مرتبطا بالأضرار الجسيمة التي تحدث للرئتين عند الإنسان.

ونتيجة لذلك، هناك حاليا دعوات عالمية متزايدة بضرورة إجراء المزيد من البحوث والدراسات والتجارب لتقدير الآثار الصحية والبيئية الضارة المحتملة لتكنولوجيا النانو قبل استخدامها، حتى لا يتكرر مثل ما حدث في السنوات القليلة الماضية مع مخاوف المجتمع العلمي والرأي العام من المخاطر المحتملة للأغذية المعدلة وراثيا.

فقد صدر أوائل العام الحالي 2012، تقرير عن المجلس الوطني الأميركي للبحوث بعنوان «استراتيجية بحثية لجوانب الصحة والبيئة والسلامة المتعلقة بالمواد النانوية متناهية الصغر،» تم فيه تلخيص للحالة الراهنة لعلوم وتقنيات النانو والثغرات ذات الأولوية القصوى في البيانات الخاصة بالمخاطر المحتملة حول الصحة والسلامة من استخدام المواد النانوية المهندسة.

ووصف التقرير الأدوات والمداخل الأساسية اللازمة لمتابعة استراتيجية بحوث مجال مخاطر الصحة والسلامة، كما أشار التقرير إلى جدول أعمال البحوث المقترحة على المدى القصير والمدى الطويل في هذا المجال، والتقديرات اللازمة للموارد والمصادر، وأوضح أنه، من دون وجود خطة بحثية منسقة للمساعدة على توجيه الجهود لإدارة وتجنب المخاطر المحتملة للمواد النانوية، فسوف يصبح مستقبل أمن واستدامة تكنولوجيا النانو غير مؤكد، وتعرض التقرير لأهمية وضع استراتيجية لتطوير البحوث العلمية والبنية التحتية اللازمة لمعالجة المخاطر الصحية والبيئية المحتملة للمواد النانوية، التي يتطلب تنفيذها بصورة فعالة وجود إدارة مناسبة وميزانية بحثية مباشرة.

ويقول الباحثون إن المخاطر المحتملة لتكنولوجيا النانو، تنال تغطية إعلامية دون المستوى المطلوب. فقد توصلت دراسة أميركية إلى أن التغطية الإعلامية للمخاطر المحتملة لهذه التكنولوجيا، كانت ضئيلة بالمقارنة مع المقالات الكثيرة التي تمجد الفوائد والآفاق المستقبلية لتكنولوجيا النانو؛ ففي هذه الدراسة الطولية حول التغطية الإعلامية لتكنولوجيا النانو التي امتدت من 2000 إلى 2009، في 20 صحيفة أميركية، و9 صحف بريطانية، ووكالتين للأنباء، قام الباحثون بفحص المقالات التي يمكن أن تنبه القراء إلى مخاطر تكنولوجيا النانو، ووجدوا أن عدد القصص الخبرية التي تناولت مخاطر هذه التكنولوجيا، قد بلغ نحو 37 فقط في السنة في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وخلص التقرير إلى أنه، بالنظر إلى الكثير من المقالات الكثيرة التي تركز على فوائد تكنولوجيا النانو والحد الأدنى المطلوب معرفته حولها للشخص العادي، فإن ذلك يمكن أن يمهد الطريق لانعدام ثقة عامة الجمهور حول تكنولوجيا النانو، في حالة حدوث مخاطر متعلقة بها.

وقال الباحثون إن التغطية الإيجابية لتكنولوجيا النانو قد ركزت على فوائدها في مجالات الصحة والطاقة والكومبيوتر، وإن هذا هو ما قد يعتقد المحررون بأن جمهور القراء يرغبون في قراءته، كما أن الصحافيين لديهم حافز قليل لمتابعة المخاطر المتعلقة بهذه التكنولوجيا.

وجدير بالذكر أن فهم تكنولوجيا النانو، لا يزال يمثل أولوية قصوى لإدارة الغذاء والدواء الأميركية، حيث تؤكد على أن المواد النانوية متناهية الصغر تستوجب وتستحق المزيد من التدقيق والتمحيص، وقد أصدرت الإدارة في أبريل (نيسان) من العام الحالي 2012، مشروعين لمبادئ توجيهية بشأن تكنولوجيا النانو، تضمنا الدعوة من الآن، لوضع مزيد من الدراسات والبحوث والاختبارات وكثير من المسؤولية على الشركات، بخصوص السلامة المتعلقة بالجزيئات النانوية، ونصحت الإدارة الشركات التي تستخدم تكنولوجيا النانو في المضافات الغذائية أو تغليف المواد الغذائية، للتشاور مع الإدارة وإظهار أن التغييرات الحادثة فيها آمنة، قبل السماح لها قانونيا ببيع منتجاتها، وعلى الشركات أن تثبت بيانات واختبارات إضافية للسلامة قبل الموافقة عليها. وقالت مارغريت هامبورغ، مفوضة إدارة الغذاء والدواء الأميركية، في بيان لها إن «إدارة الغذاء والدواء الأميركية تعزز الأدوات العلمية وأساليب تقييم المنتجات الغذائية ومستحضرات التجميل والأدوية والأجهزة الطبية».

يذكر أيضا أن الاتحاد الأوروبي يطلب من الشركات إثبات أن منتجات النانو آمنة، قبل أن يتم بيعها للمستهلكين.

ووفقا لما نشر في صحيفة «شيكاغو تريبيون» الأميركية، على موقعها الإلكتروني في 10 يوليو (تموز) الماضي 2012، تحت عنوان «العلماء: المنتجات القائمة على تكنولوجيا النانو لها إمكانات عظيمة، لكن مخاطرها غير معروفة»، فإن تطوير تطبيقات لتكنولوجيا النانو يفوق بسرعة ما يعرفه العلماء عن الاستخدام الآمن لها، فالخصائص غير العادية التي تجعل من المواد على مقياس النانو، جذابة، تثير أيضا مخاطر غير متوقعة على صحة الإنسان والبيئة، وفقا للمؤلفات والدراسات العلمية حول هذا الموضوع.

تقول الباحثة كاثلين إيجليسون، في مركز علوم وتكنولوجيا النانو بجامعة نوتردام الأميركية، والمهتمة بدراسة الآثار البيئية والاجتماعية والقانونية لتكنولوجيا النانو، إنه «لم يتم بعد تحديد خصائص المواد على مقياس النانو بشكل جيد، من حيث الآثار المحتملة التي يمكن أن تحدث على الكائنات الحية».

وقالت إدارة الغذاء والدواء الأميركية إن العلماء لا يعرفون الفترة والكيفية التي تبقى فيها الجزيئات النانوية في جسم الإنسان، وما الذي يمكن أن تفعله أثناء وجودها. لكن الأبحاث على الحيوانات قد توصلت إلى أن استنشاق جزيئات نانوية، يمكن أن يصل إلى جميع المناطق في الجهاز التنفسي، نظرا لصغر حجمها وشكلها، حيث يمكن أن تنتقل بسرعة في الخلايا والأعضاء، والجزيئات الصغيرة جدا قد تشكل أيضا خطرا على القلب والأوعية الدموية والجهاز العصبي المركزي وجهاز المناعة.

وقد أظهرت الدراسات على الحيوانات أن بعض المواد على مقياس النانو، يمكن أن تعبر «الحاجز الدموي الدماغي» (blood - brain barrier)، وتنقل الأدوية مباشرة إلى الدماغ لعلاج الأورام، والحاجز الدموي الدماغ، هو حاجز يفصل بين مجرى الدم والدماغ، ويحمي الدماغ من تغلغل المواد الضارة التي تدور في مجرى الدم.

يقول أندرو ماينارد، مدير مركز مخاطر العلم بجامعة ميتشيغان الأميركية إنه «لا يزال غير معروف كيف سيكون الضرر المحتمل من المواد النانوية، وكم ستكون الكمية المطلوبة منها للتسبب في هذا الضرر، ومدى قدرة الجسم على التعامل مع هذه المواد والتعافي منها».