كلكامش ينتصر لفنان عراقي بأكبر منحوتة تتوسط غابات الأرز في لبنان

المبارك لـ «الشرق الأوسط» نحن مهملون في وطننا ويحتفى بنا في الخارج

النحات خالد المبارك في محترفه يعمل على «كلكامش في غابات الأرز» («الشرق الأوسط»)
TT

«هو الذي رأى كل شيء.. فغنى بذكره يا بلادي» بهذه الأبيات الشعرية تستهل ملحمة جلجامش، أول عمل مسرحي ملحمي في التاريخ والذي كتب في مدينة (أوروك) الوركاء، جنوب العراق، قبل أربعة آلاف عام متحدثة عن رحلة الملك كلكامش الأسطورية للبحث عن الخلود بعد وفاة صديقه أنكيدو ليجد بالتالي أن خلوده يكمن فيما بناه من حضارة وتشييده لمدينة أوروك وقصورها وأسوارها. في جزء من هذه الرحلة يمر كلكامش بغابات الأرز والتي موطنها لبنان باحثا عن عشبة الخلود التي سيجدها في البئر لتسرقها الأفعى فيما بعد.

هذه الملحمة التي جسدها طلبة أكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد عام 1976 كواحدة من أجمل العروض المسرحية في تاريخ الأكاديمية حتى اليوم، من إخراج الفنان العراقي سامي عبد الحميد، كان الأجدر أن تتحول إلى نصب تشكيلي منحوت يزين إحدى ساحات بغداد، لكن جزءا من الملحمة ستخلده إحدى ساحات بيروت خاصة وجود جلجامش في غابات الأرز.

الفنان العراقي خالد المبارك، والذي يتمنى أن تهتم وزارة الثقافة العراقية أو أمانة بغداد أو أي حكومة محلية في المحافظات العراقية بأعماله النحتية الإبداعية، لم يتوقع أن يفوز عمله النحتي المتعلق بالحضارة العراقية بجائزة أفضل منحوتة عملاقة تحكي قصة الأسطورة كلكامش من بين العشرات من الدول المشاركة ضمن فعاليات «سمبوزيوم أهدن الدولي» المقام في لبنان مؤخرا؛ حيث سيتوسط هذا العمل العراقي أهم الساحات في لبنان ويجسد جزءا من مسيرة الأسطورة كلكامش عندما مر بجبال الأرز في رحلته الشهيرة لأجل الخلود والبقاء.

والمبارك الذي عرف ومنذ بداياته في دراسة الفن التشكيلي بأكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد بتميزه أسلوبيا ومضمونا كان قد احتفى من قبل بجوائز دولية كثيرة، عبر الكثير من الأنشطة والفعاليات التشكيلية التي عرضت في قصر الأونسكو في بيروت عام 2001 إضافة لمعرضه الشخصي في مدينة عالية وله نصب مميز في ذات المدينة (عالية) ضمن مشاركته في (سمبوزيوم عالية الدولي للنحت). وهو يشير إلى مفارقة مفادها أن معظم أعماله يحتفى بها في الخارج أكثر منها في الداخل، وأن أهم أعماله النحتية المهمة ما تزال تعاني النسيان والإهمال وهي تقبع إما في أحد أركان بيته أو في مواقع وساحات مهملة بعيدة عن الأنظار داخل العراق وهي تعاني الاندثار كل يوم.

عن جائزته الأخيرة وسر اختيار اللجنة المشرفة لأعماله في الخارج في حين يهملها المعنيون في الداخل يقول المبارك لـ«الشرق الأوسط»، إن «العمل الفائز يحمل عنوان (كلكامش في غابات الأرز) وهو يجسد جزءا من ملحمة كلكامش الشهيرة عندما مر بها البطل في غابات لبنان باحثا عن نبتة الخلود وهي الثيمة التي حاولت العمل عليها لأجل خلق صلة ما بين الزمان والمكان، إضافة إلى محاولة التأكيد على الصلات الحضارية الحميمية التي تربط الشعبين العراقي واللبناني».

وأضاف المبارك الذي ينحدر هو أصلا من مدينة البصرة في جنوب العراق، حيث ازدهار الحضارة السومرية قريبا من أحداث من ميدان ملحمة كلكامش قائلا، «العمل الفائز جاء في إطار المشاركات الدولية في مجال ورش العمل (السمبوزيوم) وضمن مجال التعاون الثقافي بين وزارة الثقافة العراقية ووزارة الثقافة اللبنانية، ويعد من الورش الفنية الدولية والتي يشارك فيها نخبة من فناني العالم وفي مجال الرسم والنحت والتقنيات المختلفة، وقد تمت الاتفاقيات لتنفيذ العمل بارتفاع 10 أمتار ومدة تنفيذ من ثلاثة إلى ستة أشهر».

موضحا أن هناك حرفية إبداعية عالية يمتلكها الفنان العراقي وهو مشهور بها أيضا، لكنه مهمل في وطنه بسبب عدم وجود متابعة حقيقية للأعمال الفنية الجيدة ودخول الطارئين على الفن والجهل بقيمة الفنان العراقي وما يقدمه من أعمال غالبا ما تهمل أو تترك تحت رحمة المناخات الجوية بلا صيانة أو إدامة، ومعظم الأفكار الفنية صارت تطبق في الخارج أفضل من تركها تموت في الداخل.

وضرب مبارك أمثلة على ما يقول من بينها نصب البصرة الكبير الذي أنجزته عام 2009 لكنه مركون حتى كتابة هذه السطور في حديقة مهملة، والمفروض أن يأخذ مكانه في موقع مميز وعام وأمام الجمهور، علما بأنه من النصب المهمة التي تحكي قصة العراق الموحد بكل تفاصيله ورموزه وهو عمل غير تقليدي بتقنيات فن معاصر، وبقياسات (8X3) أمتار، ونصب التآخي الذي كان مقررا نصبه في مدينة كركوك، لكن اختلاف الساسة حول أمره، سبب إهماله في مرأب بيتي منذ أربع سنوات وأنا وحدي أدفع ضريبة اندثاره كل يوم، وكذلك الحال مع (نصب بابل) الذي يمثل الحدائق المعلقة هو الآخر ضحية من ضحايا الفن المهمل، وهو متروك في مدينة الحلة ولم تكتمل عمليات بناء قواعده في حين أني أنجزته عام 2008.

وعن رأيه في المنحوتات الفنية الموزعة في أنحاء بغداد، قال، «إنها بحاجة إلى إعادة صياغة وإزالة كثير منها والتي لا تحمل أي ذائقة جمالية، خصوصا المشيد منها بعد عام 2003؛ إذ إن بعضها معيب للفن العراقي الأصيل، كان السبب في انتشارها تجار الفن الذين أقحموا أنفسهم في هذا الميدان مؤخرا وهيمنوا عليه، في حين لدينا الكثير من الفنانين الكبار المعطلة طاقاتهم بسبب عدم الاهتمام بهم، وبسبب لجوئهم للفرجة على ما أصابهم من كساد وإهمال أو محاولة بعضهم السفر إلى الخارج والإبداع خارج حدود الوطن، وهذا ما يفسر خمول الحركة الفنية في العراق».

يحدث هذا في بلد يفتخر بحضاراته الإنسانية القديمة من جهة وبإبداع فنانيه التشكيليين من جهة أخرى، إذ يعتبر نصب الحرية للفنان الراحل جواد سليم واحدا من الأعمال النحتية المهمة عالميا، وكذلك نصب الشهيد للفنان الراحل إسماعيل فتاح الترك والذي فاز بجوائز عالمية مهمة، إضافة إلى نصب الجندي المجهول للفنان الراحل خالد الرحال، ويقابل ذلك قيام جهات رسمية بحملات جاهلة لإزالة عدد من النصب والتماثيل في ساحات بغداد بسبب ما يعتقدونه بأنها تمثل حقبة من النظام السابق، من بينها نصب المسيرة للفنان الرحال الذي كان قبالة بناية المتحف العراقي في منطقة علاوي الحلة وسط جانب الكرخ من بغداد والذي يحكي قصة الحضارة العراقية بينما فسره الجهلة بعد 2003 بأنه يمثل مسيرة حزب البعث، ونصب اللقاء بساحة اللقاء وسط حي المنصور للفنان الدكتور علاء بشير والذي يجسد قصة عاطفية في لقاء بين رجل وامرأة، وكذلك تماثيل قادة ثورة مايس الأربعة في العراق عام 1941، ومحاولات إزالة قوس النصر في ساحة الاحتفالات الكبرى في العاصمة بغداد، وقد لاقت تلك الممارسات البعيدة عن أي سلوك حضاري انتقاد الكثيرين كونها تمثل حقبا مهمة من تاريخ العراق المعاصر وأن أسبابا سياسية تقف وراء محاولة إزالتها.

ويعد نصب قوس النصر الذي أقيم أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وهو عبارة عن سيفين ضخمين، يرسمان في الفضاء قوسا شاسعا. تمسكهما يدان قويتان، قيل أنهما كانتا نموذجا ليدي صدام حسين، وتنتشر تحت السيفين خمسة آلاف خوذة حقيقية لجنود إيرانيين، جمعت من ساحات المعارك التي دارت بين البلدين.