زياد دلول يرسم مروج أشجار وأزهارا ومآدب عشاء

في معرضه الأول بمدينة جدة

TT

استضافت مؤسسة المنصورية للثقافة والإبداع بالتعاون مع غاليري «آثر» بمدينة جدة معرضا للفنان السوري زياد دلول قدم خلاله مجموعة من الأعمال الطليعية التي تتناسل طقوسها من مناخات مكان إقامته في باريس منذ 1984م، أي ما يقارب الثلاثة عقود، استحضر خلالها مناظر حيوية خلابة استلهمها من الطبيعة بمقاربات الانطباعيين وبرهافة خاصة تميزت بها مجمل لوحاته التي زينت بها جدران القاعة وفق متواليات متباينة ومتنوعة.

لقد استفاد دلول من تقنيات أشد الانطباعيين ضراوة؛ أعني بول سيزان (1839 – 1906م) ومواطنه أوغست رينوار (1841 - 1919م)، وهما فرنسيان امتدت ذخائرهما البصرية إلى التأثير في موجة الحداثة المبكرة وعنيت تجاربهما بتسجيل المشاهد الطبيعية والعالم المرئي الحي، فيما تستند نظريتهما الجمالية إلى ضرورة أن يمر المشهد المرئي بنفس الفنان ومشاعره، معتبرين أن ذلك المرور هو الذي يوحى بالانطباع الذي يدفع المبدع إلى التعبير الجمالي، فيما يعد الإحساس هو أساس التعبير لديهما. وتشير إحدى مقولاتهما المتشددة إلى أن كل معرفة مرئية للطبيعة أو نحوها لم يسبقها إحساس بها فهي لن تجدي نفعا.

إن البلاغة التي تنطوي عليها تجربة الفنان زياد دلول في المعرض التي عززت من خصائص فرادة تجربته البصرية تمثلت في قراءته التقنية الدقيقة ودراسته طبيعة الألوان عند سيزان والأشكال وحساسيتها الجمالية عند رينوار ومن ثم كرس حساسيته للوصول إلى توليفته الذاتية المتفردة والمرهفة.

لقد عنيت أعماله بالشكل العام للأشياء المهملة والمهمشة والبسيطة في الطبيعة أو ما يغيب عن أنظار الناس ولا يجلب اهتمامهم؛ على عكس الانطباعيين الذين أسرهم تسجيل المشاهد الحية وملاحقتها عن قرب، بينما في حالة دلول اختار أن يشيح برسومه عن هذه التفاصيل وذهب إلى أكثر الأشكال المهملة حيوية التي ترى فيها حالة الفوضى أكثر من النظام، لقد بدت طقوسه الجمالية مثيرة كما في لوحته «احتفال الغائبين» الأكثر حضورا في المعرض والتي تناسلت منها مروج من الأشجار المعتمة يسيطر عليها اللون الأسود الفحمي المتساقط من أغصان حديقة وارفة الأوراق والظلال تمتد على ترابها طاولات عشاء مسحوقة بفوضى وأطباق متراخية، وزهور مخضبة بالأحمر الرماني المعتق، وكرسي ساكن تخيم عليه العزلة ويغيب عنه المحتفلون.

لقد بدت أشكاله التي صورها معبرة توحي للمتلقي أنه يرى الأجزاء التفصيلية للأغصان والزهور وبعض الأطعمة والأواني ونحوها رغم أنه لم يرسمها بتلك الدقة وهو ما زادها جاذبية وجمالا. لقد جسدت أعمال المعرض تنوعا في حضورها الجمالي المتخيل والمرئي معا، وهو أشد ما يمكن ملاحظته في مجمل الأعمال التي عرضها الفنان لأول مرة في مدينة جدة، وقد ينطوي جمال حضورها في شاعريته التي يصور بها المشهد العام من المروج والأشجار والأزهار فتثير في العين نوعا من التأمل الذي يتمازج مع خصوبة المكان وحيويته.

«المنصورية للثقافة والإبداع» قالت في كلمتها في كراس المعرض الذي طبع على نفقتها إن دلول يرسم عالما مجازيا تتجرد فيه الأشياء من دلالتها المباشرة، وأضافت أنه إبان زيارتهم لمرسم الفنان في باريس «كانت لوحاته تتوالى أمام أبصارنا لتشكل عالمه اللغزي في صور لا نهائية مثل تعاقب الليل والنهار ومحاورة الريح والصمت وتماهي الشجر والماء.. إنه عالم يحفزك على الولوج فيه ويدعوك لحضور مآدبه والمشاركة في احتفالاته الطبيعية التي تستوجب منا التأمل فحسب».

ووصف بيير كابان المؤرخ والناقد الفرنسي موقع مرسم الفنان في إحدى ضواحي باريس العتيقة بأنه «يطل على فناء مرصوف بالحجارة التي تغطيها الطحالب وسط بيوت أثرية مزهرة، وحوله يمتد حي مكتظ وصاخب. إنه مكان خلوته حيث يرسم ويطبع محفوراته بعزلة ومثابرة تدل على الإبداع، ومن هنا، فقد أعطى دلول لفنه روحانية تعبيرية من خلال توافق الطبيعة والمشاهد حوله ليصبحا موضوعا واحدا يتشاركان في تبادل جمالي غني وحيوي.. إنه يرسم الشجر والهضاب وانجرافات الحقول والسماء في أفق مفتوح وخيال لوني مثير».

وفي مقدمة مطولة بعنوان «لا يقيد النور قيد»، كتبت الروائية السعودية رجاء عالم مقالا عن تجربة الفنان، قالت فيها «إننا نرى في أعمال زياد دلول بقايا موائد تسترجع بشرا مروا من هناك تشاطروا اللقمة والرشفة وغابوا في نشوة عصارة عنب على ناظرهم».

في حين قال الأستاذ حمزة صيرفي من غاليري «آثر» إن معرض زياد دلول هو أول باكورة تعاون بينهم وبين مؤسسة «المنصورية» التي «تعد إحدى منارات دعم الثقافة والإبداع في المملكة ولها دور طليعي في هذا المجال ساهم ولا يزال في الحراك الثقافي، وإننا نطمح كنافذة للفنون في المملكة إلى استمرار حالة التواصل الفكري والفني؛ خاصة أننا أمام معرض لفنان متمكن يمتلك حسا فنيا عالي المستوى».