«روح فيينا» ليست فقط باتفاقياتها الدولية.. وإنما بفنون أرصفتها أيضا

الدولة تسن قوانين تلزم فناني الطرقات بطلب تراخيص

عادة يسارع الفنانون للاصطفاف في طوابير طويلة للفوز بموقع جذاب من 32 موقعا هي الأكثر جذبا للمارة.. التي توصف بـ« استراتيجية»
TT

«روح فيينا» و«اتفاقية فيينا» وغيرهما من عبارات تستخدم لوصف ما تعكسه العاصمة النمساوية من أجواء لاتفاقات ومعاهدات دولية أصبحت مرجعا لتعامل الدول ودبلوماسييها وخبرائها، يستندون عليها ويستدلون بها لحل المنازعات. وعادة ما يطلقون عبارة «روح فيينا»، يعنون بذلك التنازلات التي تقدمها الأطراف المتنازعة تغليبا لعقد اتفاق ووصولا لإجماع.

لكن، ومن وجهة نظر ممن يعرضون فنونهم على الأرصفة والطرقات فإن فيينا مدينة «صعبة» لا تسودها دائما تلك الروح التوافقية، متهمين قوانينها التنظيمية بالجمود والصلابة، لدرجة يستحيل معها «الأخذ والرد».

يرجع غضبة هؤلاء، من أصحاب المواهب الذين يعملون في الهواء الطلق والأماكن العامة والطرقات خارج نطاق دور المسارح والصالات المغلقة، إلى قانون جديد شدد القبضة ضد الانتشار العشوائي لكل من يعتقد أن بإمكانه حمل غيتار أو أي آلة موسيقية أو حتى تلوين نفسه والوقوف كتمثال حيثما شاء، عارضا لما يقدمه من موهبة وفن دون محاسبة.

وعلى الرغم من إرث فيينا وشهرتها الطاغية، كمدينة للموسيقى والمسرح والأوبرا ورقص الفالس ورفاهية الحياة، وعلى الرغم من إعجاب سياح المدينة وزوارها بما يتوفر لهم من عروض مجانية نمساوية وأجنبية متجددة ومتنوعة، فإن قطاعات واسعة من سكان المدينة، خاصة من يسكنون شوارعها الرئيسية قرب مواقعها السياحية ووسط أسواقها، يتأففون أحيانا، بل يسارعون بالشكوى ولا يترددون في إبلاغ الشرطة في حال ارتفعت الأصوات أو اشتدت الضوضاء بسبب حماس موهبة لم تراعِ أهمية تطبيق قانون النظام العام.

ولا يعني ذلك أن أهل المدينة لا يهتمون أو لا يشجعون المواهب. إنهم فقط أكثر حرصا على القانون وتطبيق النظام لإيمانهم المطلق بأن فيينا لو انفرط نظامها لن تتميز أو تكون مختلفة.

التزام المدينة واحترامها للنظام هو السبب الرئيسي في حفاظها على نظافتها وجمالها وأمنها وسهولة العيش والعمل والحركة فيها، مما أهلها للفوز بالمرتبة الأولى بين 72 مدينة عالمية لـ3 سنوات متتالية.

القانون يلزم فناني الأرصفة والطرقات بطلب تراخيص من مكتب خاص يتبع لبلدية المدينة يشرف على مناطقها الـ23، ويفتح أبوابه للتسجيل في السادسة صباح يوم الاثنين الأخير من الشهر. وعادة يسارع الفنانون للاصطفاف في طوابير طويلة للفوز بموقع جذاب من 32 موقعا هي الأكثر جذبا للمارة، التي توصف بـ«استراتيجية»، كتلك التي تقع مباشرة أمام محطة أنفاق اشتيفان بلاتز، قلب المدينة القديم أو تلك المحددة أمام كنيسة القديس اشتيفان، أكبر كنائس النمسا، ومواقع أخرى لا تقل أهمية موزعة على طول شارع كيرتن أشهر شوارع فيينا سياحيا، وأغلاها تسوقا.

ويفضل آخرون ساحات أوسع تتيح لهم فرص عرض مواهبهم داخل حدائق عامة كحديقة اشتات بارك التي تتوسط المدينة وتنعم بهدوء وجمال شديدين، وإن كانت من أكثر المناطق عرضة لمداهمات الشرطة التي تدقق وتحقق للتأكد من الالتزام بالوقت المحدد الذي لا يتجاوز ساعتين بدءا من الساعة الرابعة مساء وحتى الثامنة، مع شرط واضح، ألا يتجاوز ارتفاع الصوت في حالة العروض الموسيقية والغنائية 65 ديسبل لكل متر، وإلا فإن الغرامة تصل إلى 210 يوروات.

بعيدا عن الكاميرا، وبشرط عدم الكشف عن الهوية، أشار بعض الفنانين في حديث مع «الشرق الأوسط» إلى أنهم يتغاضون أحيانا عن الالتزام الحرفي بالقانون، خاصة عندما يجدون تجاوبا حارا من الجمهور الذي يدفع بسخاء، ولا ينصرف بعد العرض مباشرة متجاهلا «طواقيهم» التي يضعونها أرضا كوسيلة لجمع التبرعات.

وأجمع أفراد أكثر من فرقة بعضها موسيقي وبعضها غنائي على أنهم يقدمون عروضهم ليس لكسب المال فحسب، وإنما كتجربة «وبروفة» لكسر رهاب المسرح، استعدادا لعروض رسمية، فيما أشار البعض إلى أن تجاوب المارة المباشر والعفوي يساعدهم كثيرا في اجتياز امتحانات هم في طريقهم لأدائها كطلاب معاهد فنية. من جانبها، قالت نادين وهي طالبة فرنسية (22 سنة) تطلي جسدها كاملا بمادة للوقوف كتمثال دون حركة كلما وقف أمامها أحد المارة، إن ما تقوم به ليس عملا هينا بل شاق وجاد يتطلب مرانا قاسيا تتخلله نظرات الإعجاب وكثرة طلبات التصوير التي يتقدم بها الحضور، وطبعا تتوقع الطالبة بالمقابل أن يدر عليها ذلك مبالغ لا بأس بها. وهي تؤمن بضرورة التقيد بالقانون، وإن كان من الضروري أن تتوافق القوانين، ولو قليلا, مع نمط أسلوب عمل الفنانين ورغبات الجمهور.

بدوره، أشار رفيقها شارل، وهو عازف غيتار أرجنتيني يدرس القانون، إلى أنه من الصعب أحيانا التمييز بين الضوضاء المحيطة بسبب المارة أو العروض، مشيدا بالتزام فيينا بتحديد مناطق مغلقة أمام السيارات ووسائل المواصلات وتخصصها فقط للمارة، مما يقلل من الإزعاج. ويضيف أن ما يتعرض له من مضايقات أحيانا يتكرر بسبب شكوى أصحاب محال تجارية ممن يدعون التضرر من اكتظاظ التجمعات أمام محالهم، مضيفا أن فيينا أقل تسامحا مع من يسعون لتقديم موسيقاهم وأغانيهم داخل قطارات الأنفاق، عكس ما عليه الحال في باريس ولندن، وإن كان سياح فيينا أكثر كرما خاصة صغار السياح العرب، كما قال.