ناشطون عراقيون يقفون بوجه الجرافات من أجل وقف تدمير بغداد

صدام أراد تغيير اسمه وأمانة العاصمة تخرب حدائق شارع (أبو نؤاس)

نصب نحتي يمثل شهرزاد وهي تقص حكاياتها لشهريار وسط حدائق «أبو نؤاس» للفنان الراحل محمد غني حكمت عام 1972 («الشرق الأوسط»)
TT

في بداية الثمانينات من القرن الماضي ترأس صدام حسين، الرئيس العراقي السابق، سلسلة ندوات كان بعضها عن إعادة تسمية شوارع ومناطق ببغداد، من ضمنها شارع «أبو نؤاس»، حيث اقترح رئيس النظام السابق إطلاق تسمية أخرى على الشارع، كأن «يكون الشارع العباسي أو شارع العباسيين مثلا»، حسب مقترحه (صدام حسين)، وبرر ذلك بأن «أبا نؤاس فارسي ولا يمكن أن يحمل أهم شوارع بغداد اسم شاعر فارسي».

وقتذاك وخلال هذه الندوة لم يواجه صدام حسين أي من المثقفين العراقيين خشية من بطشه، باستثناء الكاتب جبرا إبراهيم جبرا، عراقي الجنسية فلسطيني الأصل، الذي قال له أمام الحضور: «إن شارع أبو نؤاس صار علامة حضارية مميزة لبغداد، وأينما أكون في العواصم العربية أو الغربية يسألني الأصدقاء عن هذا الشارع، بل ما من زائر لبغداد إلا وتمشى أو شرب الشاي أو أكل السمك المسكوف في أحد مطاعم شارع أبو نؤاس، فكيف يمكن تغيير اسمه؟ وحتى إذا تغير اسم الشارع رسميا فإن الناس ستبقى تطلق عليه التسمية الأصلية». وأردف قائلا بأن «الشاعر أبا نؤاس وهو الحسن بن هانئ، يعتبر شاعرا عربيا عراقيا أكثر منه فارسيا أو إيرانيا، وعاش في عصر الخليفة هارون الرشيد، وثقافته وشعره عربيان، وأن بلاد فارس كانت تابعة للإمبراطورية العباسية وتعتبر جزءا منها». هنا اقتنع صدام حسين وتراجع عن مقترحه وبقي الشارع واسمه مثلما كان دائما.

شارع «أبو نؤاس» يحتل جزءا مهما من ذاكرة كل العراقيين وليس البغداديين فحسب، إذ تمتد حدائقه الغناء بأشجارها المعمرة منذ أكثر من قرن على طول ضفاف نهر دجلة بدءا من منطقة «الباب الشرقي» وحتى نهاية الكرادة حيث يستدير النهر، وكان سابقا يزدهر بالمقاهي والمطاعم التي تقدم السمك المشوي على الطريقة البغدادية (المسكوف) والذي كان يتم اصطياده مباشرة من نهر دجلة، بينما تعد حدائقه متنزها مزمنا للعوائل العراقية، هناك يقوم أجمل نصبين نحتيين ببغداد، الأول تمثال الشاعر أبي نؤاس الذي أبدعه النحات الراحل إسماعيل فتاح الترك، والثاني تمثال لشهرزاد وهي تحكي قصص ألف ليلة وليلة لشهريار الذي يجلس على مسطبة كبيرة. هذه الحدائق اليوم مهددة بالاختفاء بسبب مشروع أمانة العاصمة التي بدأت جرافاتها تجرف الأشجار وبينها أشجار معمرة، حسبما أكدت المهندسة شروق العبايجي، ناشطة المجتمع المدني، التي تنظم مع مجموعة كبيرة من المثقفين العراقيين حملة للحفاظ على موروث العاصمة بغداد باسم «أوقفوا تدمير بغدادنا».

وقالت العبايجي لـ«الشرق الأوسط» عبر الهاتف من بغداد أمس: «سننظم غدا (اليوم) وقفة احتجاج قرب تمثال أبي نؤاس في ذات الحدائق التي تجرفها بلدوزرات وجرافات أمانة العاصمة، حيث سيحضر العشرات من المثقفين العراقيين لنقول لا لتدمير بغداد»، مشيرة إلى أن «تخريب حدائق أبي نؤاس يشكل امتدادا لمخطط مقصود من قبل الأمانة لتدمير كل ما هو تراثي وحضاري في عاصمة كل العراقيين، إذ بدأوها بشارع المتنبي وأهملوا عن قصد شارع الرشيد عرضة للخراب ومنطقة البتاويين، واليوم ينهشون جسد أجمل الحدائق التي تشكل جزءا مهما من ذاكرة كل العراقيين».

وأضافت الناشطة المدنية قائلة: «إن بغداد تفتقر للحدائق والمساحات الخضراء، حيث خربوا حدائق متنزه الزوراء وبنوا مكانها مخازن، وبنوا مشاريع تجارية في الحدائق العامة وسط الأحياء السكنية، مثل الحارثية، واليوم يجرفون أشجارا معمرة تقوم في هذه الحدائق منذ مائة عام بدلا من أن تقوم أمانة العاصمة بزراعة الأشجار والحفاظ على المساحات الخضراء»، منوهة بأن «القانون العراقي يمنع قطع الأشجار فكيف الحال بالأشجار المعمرة؟ وأن حدائق أبو نؤاس تشكل رئة بغداد وهي كل ما تبقى من منظر أخضر على ضفاف دجلة».

وأوضحت العبايجي قائلة: «لقد نظمنا مجموعة تحت اسم (أوقفوا تدمير بغدادنا) التي انضمت إليها أعداد كبيرة من العراقيين من داخل وخارج البلد، ومن فئات ومهن مختلفة، حيث وجهنا رسالتين لرئيس مجلس النواب ولأعضاء البرلمان العراقي، وسوف نشكل وفدا لمقابلة رئيس البرلمان أسامة النجيفي، كما سنجمع تواقيع الآلاف من العراقيين ومن كل مكان لإيقاف هذا التخريب قبل أن نرفع دعوى ضد أمانة العاصمة ونخاطب المنظمات الدولية لوقف التخريب المتعمد لما كانت عليه أجمل مدينة بشوارعها وحدائقها»، مشيرة إلى أن «بغداد تحولت إلى خراب بفعل المشاريع العشوائية والفساد المالي من قبل أشخاص لا يتمتعون بالخبرة ومتعمدين لتخريب كل ما هو جميل وحضاري ببغداد».

وكشفت العبايجي عن أن «أمانة العاصمة لا تريد إعادة تأهيل شارع الرشيد لأسباب طائفية، كون اسمه مقترنا بالخليفة العباسي هارون الرشيد، والموضوع ذاته ينطبق على شارع أبو نؤاس، وكانوا قد فجروا تمثال أبي جعفر المنصور لأسباب طائفية أيضا قبل أن يعيدوه بسبب الضغوط». وقالت: «لقد كنا نطالب بتأهيل بغداد وإعادتها إلى مجدها السابق، لكننا يئسنا من حدوث ذلك، فصرنا نطالب بوقف التخريب ودمار المدينة حاليا لنطالب بالتأهيل لاحقا».

وأشارت العبايجي إلى أن «أمانة العاصمة تمادت كثيرا في ممارساتها التخريبية لأنها لم تلمس أي معارضة لما تقوم به، واليوم نحن نقف لهم بالمرصاد، ومثلما لم نسكت على تخريب شارع المتنبي فسنبقى مدافعين عن حدائق أبو نؤاس وشارع الرشيد والبتاويين وكل مناطق العاصمة التراثية».

من جهته اتهم حكيم عبد الزهرة، مدير عام العلاقات العامة في أمانة العاصمة الناشطين والإعلام «بتحريف الحقائق والوقوف ضد مشاريع الأمانة التي تهدف إلى تجميل بغداد»، مشيرا إلى أن «هؤلاء الناشطين أقاموا الدنيا لأننا أردنا إزالة العشوائيات من شارع المتنبي عندما أزلنا أكشاك بيع الشاي والعصير لإبقاء الشارع مقتصرا على بيع الكتب والقرطاسية، وها هم اليوم يقفون بوجهنا لتنفيذ مشروع تطوير حدائق شارع أبو نؤاس».

وقال عبد الزهرة لـ«الشرق الأوسط» عبر الهاتف من إسطنبول أمس إن «المرحلة الثالثة من تطوير شارع أبو نؤاس تتطلب إزالة بعض المطاعم والمقاهي التي انتهى عقدها مع الأمانة وبناء أكشاك ومطاعم ومقاه جديدة، كذلك تطوير شارع خدمي وسياحي وشق طريق آخر للعجلات الهوائية (البايسكلات) وسط الحدائق مع إنشاء أكشاك لتأجير هذه العجلات»، مشيرا إلى أن «ذلك سيتطلب شق طريق بعرض 6 أمتار للمشاة وآخر 3 أمتار للعجلات الهوائية، وبينهما فاصل متر واحد، أي بعرض 10 أمتار وبطول كيلومترين ونصف الكيلومتر وسط الحدائق».

وحول اعتراض الناشطين على تجريف الأشجار، وبينها أشجار معمرة، قال مدير عام العلاقات العامة في أمانة بغداد: «قد تعترض عملية شق الطرق بعض الأشجار وسوف يتم رفعها أو تجريفها، وهي ليست كثيرة»، مبديا استغرابه من اعتراض الناشطين، قائلا: «ليس هناك طريق للمشاة على ضفاف دجلة أو طريق لممارسة رياضة الدراجات الهوائية، وأمانة العاصمة هدفها التطوير وتجميل هذه الحدائق». وقال إن «كل بغداد فيها مناطق خضراء وأشجار وحدائق، حيث قمنا بزراعة هذه الأشجار أكثر من أي عهد مضى».

وبرر عبد الزهرة عدم قيام أمانة العاصمة بتأهيل شارع الرشيد ومنطقة البتاويين إلى أن «غالبية أملاك شارع الرشيد والبتاويين للأهالي وليست لأمانة العاصمة، كما أننا وضعنا دراسة لتأهيل شارع الرشيد وخصصت لها ميزانية بحدود 120 مليار دينار عراقي، لكن الحكومة سحبتها وحولتها إلى ميزانية وزارة الدفاع»، مشيرا إلى أن «أمانة العاصمة كانت تتمنى أن تطور شارع الرشيد وسوق الصفافير للمشاركة في نشاطات (بغداد عاصمة الثقافة العربية) العام المقبل».