باريس تتألق في أسبوعها لربيع وصيف 2013

بين رومانسية «نينا ريتشي» وعبقرية ألبير إلبيز وغنى الألوان ورشاقة التصاميم

TT

انطلق أسبوع باريس يوم الثلاثاء الماضي، واعدا بـ95 عرضا دسما. كالعادة، كان الإيقاع في أول يومين هادئا، بحكم أن أغلب وسائل الإعلام لم تلتقط أنفاسها بعد أو لا تزال في ميلانو. كما لا ننسى أن غالبية من يعرضون فيهما من المصممين الصاعدين، أي الذين ليس لهم إمكانيات كبيرة للإعلان في المجلات البراقة، مما يجعل حضور عروضهم ليس واجبا. لكن المؤكد أن ما يفتقدون إليه من الناحية المادية يعوضونه من الناحية الفنية، وليس أدل على ذلك من البلجيكي أنتوني فاكاريلو، الذي بزغ نجمه بعد أن ظهرت النجمة غوينث بالترو بفستان من تصميمه، والكوري الأصل مون يونغ هي، والبريطاني غاريث بيو والبرتغالية فاتيما لوبيز وغيرهم، ممن يقدمون تشكيلات تتأرجح بين مغازلة المشترين من خلال التصاميم الواقعية، والرغبة في إثارة اهتمام وسائل الإعلام من خلال الجنوح إلى الغرابة أحيانا.

الإيقاع يبدأ في التسارع في اليوم الثالث دائما، وهو اليوم الذي يقدم فيه كل من «بالمان» و«بالنسياجا» اقتراحاتهما. ولم يختلف الأمر أول من أمس (الخميس)، مع مشاركة قوية من بيوت أخرى نذكر منها «لانفان»، «كارفن»، «نينا ريتشي» و«مانيش أرورا».

مصمم دار «بالنسياجا» نيكولا غيسكيير رفع مستوى المنافسة في هذا اليوم بتقديمه تشكيلة أقرب إلى الـ«هوت كوتير» منها إلى الأزياء الجاهزة غلبت عليها لمسة حداثية لا تخطئها العين، وأقمشة منفذة بتقنيات متطورة بهدف إكسابها خفة تسمح بتطويعها على أشكال ملتوية أو كشاكش وطيات ظهرت في الكثير من التصاميم.

وحتى لا ننسى أننا في عرض «بالنسياغا»، فإن المصمم ركز على إكساب خطوطها رشاقة أقرب إلى النحافة، سواء في التايورات المكونة من بنطلونات ضيقة، أو في التنورات السوداء المستوحاة من تنورات الغجر، التي تتفتح بأشكال جد مبتكرة تتخللها حينا فتحات جانبية وحينا آخر تعرجات تكشف عن بطانة بيضاء من تحتها. الفساتين أيضا تميزت بقصات متعرجة عند الركبة يتدلى من جوانب بعضها جزء أبيض أو وردي أو ذيل من الخلف. كانت أجملها مجموعة فساتين ناعمة وقصيرة تبدو وكأنها مصنوعة بالكامل من الدانتيل أو الريش. بيد أن المصمم، وحتى لا يُتهم بالإغراق في الأنوثة، قدم ما يشبه الكورسيهات الهندسية مع بنطلونات جد ضيقة نسقها مع جاكيتات وصديرات بالكحلي أو البيج تفوح منها نكهة رجالية خفيفة. ولا شك أن هذا التوازن بين الأنثوي والذكوري كان له مفعول السحر في خلق توازن بين الضيوف والمصورين. فحضور النجمة الشابة كيرستين ستيوارت، وجه عطر «بالنسياغا» في أول ظهور لها بعد انتشار خبر خيانتها لصديقها، كان يمكن أن يغطي على أهمية الأزياء، الأمر الذي لم يحصل لحسن حظه. حضور النجمة سلمى حايك عروض «بالنسياغا» منذ زواجها من الملياردير فرانسوا هنري بينو، أصبح بمثابة تقليد لا يثير الكثير من الفضول. فهذا الأخير هو مالك مجموعة «بي بي آر» التي تنضوي تحتها «بالنسياغا» و«سان لوران» التي كانت إلى عهد قرب تعرف بـ«إيف سان لوران»، قبل أن يقرر مصممها الجديد إيدي سليمان حذف اسم إيف، وبالتالي فإن حضورها أصبح كتحصيل حاصل.

من جهته، قدم أوليفييه روستينغ، مصمم دار «بالمان» تشكيلة هندسية بالأبيض والأسود وتطريزات بالدانتيل الأبيض عند الأكتاف تحديدا، أو على شكل جدائل زينت الصدر، استوحاها المصمم، كما قال، من تقنيات يدوية كوبية قديمة. ويبدو أن المصمم الشاب الذي لا يتعدى عمره 27 عاما يعشق الرحيل إلى ثقافات قديمة، بدليل أنه استلهم تشكيلته في الموسم الماضي من الأشكال البيضاوية التي أبدعها الروسي فابيرجيه. للموسمين المقبلين، اقترح أكتافا محددة وعريضة إلى حد ما تستحضر الثمانينات، لا سيما أنه استعمل معها كثيرا من البريق والمجوهرات، إلى جانب إيحاءات من الباروك. وطبعا كان لا بد من زيارة إلى أرشيف الدار وإعادة ترجمة جاكيت التوكسيدو بشكل أنثوي أكثر هذه المرة غلبت عليه أكمام تبدو وكأنها أجنحة، إلى جانب بنطلون الجينز، الذي أصبح الحاضر الدائم في عروض الدار.

في دار «كارفن»، اختلف المزاج والصورة. فما إن بدأنا نطمئن بأن النقوشات التي ضجت بها عروض لندن، لن تجد لها مكانا في أسبوع باريس، حتى أطلت علينا هنا، وإن بأسلوب باريسي. مصمم الدار غيوم هنري، كما قال، تأثر برحلة قام بها مؤخرا إلى راجستان، حيث اكتشف صورا فوتوغرافية تعود إلى العشرينات من القرن الماضي للبريطانيين المقيمين فيها. أثارته هذه الصور وحفزته على ترجمتها بشكل عصري، من خلال ألوان البيج والرمال والكاري وغيرها من الألوان الدافئة والنقوشات الطبيعية. التصاميم في المقابل، وعلى الرغم من تنوعها، ظلت وفية لثقافة الدار من حيث توجهها إلى امرأة أنيقة وعصرية تريد أزياء لكل المناسبات اليومية والكبيرة على حد سواء. كانت هناك تايورات بطبعات ثلاثية الأبعاد، وياقات تتنافس في حجمها الكبير مع التنورات التي أخذت في بعض الحالات أشكال شمسيات في استدارتها. كانت هناك أيضا قطعا تخاطب الفتيات الصغيرات غلب عليها أسلوب «سبور» ومصنوعة من أقمشة منعشة مثل الكتان الممزوج بالحرير والقطن، مثل مجموعة من الفساتين الناعمة باللون الأبيض مزينة بالدانتيل من الجوانب ومستلهمة من الآرت ديكو.

ولا شك أن التنوع الذي غلب على التشكيلة يذكرنا لماذا تشهد «كارفن» انتعاشا في الآونة الأخيرة بحسب أرقام مبيعاتها. فالدار التي تخصصت في الـ«هوت كوتير» عند تأسيسها لا تزال تحترم جيناتها وتقدم تصاميم تحاكي هذا المجال، من دون أن تنسى أن تأخذ بعين الاعتبار أن الوقت تغير وأن المرأة العصرية لم تعد ترغب في المبالغات والتعقيدات، وبالتالي فإن كل تفصيل إضافي يجب أن تكون له وظيفة، وليس فقط لزيادة وزن القطعة أو سعرها.

مما لا شك فيه أن التوجه إلى الهند والغرف من ألوانها وثقافتها وبهاراتها ليس جديدا، فالمذاقات والترجمات هي التي تختلف بحسب وجهات نظر المصممين، ومع ذلك فعندما يقوم واحد من أبنائها بهذه الرحلة، فإنها تكتسب فجأة نكهة أكثر قوة وإثارة. وهذا ما أكده عرض مانيش أرورا، الذي يمكن القول إنه أول محاولة غوص للمصمم في جذوره. فمنذ أن انطلق إلى العالمية وهو يغازل الهند من بعيد ويحاول قدر الإمكان أن يتملص من تأثيراتها حتى لا يبقى سجين المحلية. صحيح أن ألوانه المتوهجة دائما ما تذكرنا بجذوره، فالمصمم مهما كان ابن بيئته، لكن خطوطه دائما كانت تتوجه إلى الغرب بقصاتها وتفصيلها. في هذه التشكيلة أعطى الهند حقها بالكامل، ليس من حيث الألوان الدافئة والتطريزات الغنية فحسب بل أيضا من خلال تصاميم تجمع أسلوب الساري بالأسلوب الغربي. إلى جانب خطوط الفساتين المستوحاة من الساري، كانت هناك أيضا قمصان من دون ياقات بدت عصرية بنقوشاتها الهندسية التي تمثل نمورا وغزلانا، لا تعرف إن كانت مكشرة عن أنيابها أم تضحك واعدة بصيف حار. لم ينكر ابن مومباي أن غوصه في ثقافته الهندية قدم له كل ما يتمناه على طبق من ذهب، وهو ما ترجمه من خلال ألوان المعادن التي طغت على كثير من التصاميم إلى جانب الفيروزي والأبيض والتطريزات الغنية. اعترف أيضا، بعد العرض، أنها المرة الأولى التي يقدم فيها تصاميم بخطوط هندية، والفضل يعود إلى وقوعه في غرام المجوهرات، الأمر الذي يفسر سخاءه في استعمالها في العرض. فقد غطت كثيرا من أجزاء الجسم، مثل الرأس والجبين والمعاصم والأذرع، بالإضافة إلى القلادات التي تنافست مع النمور والغزلان في تزيين الصدر.

في نفس اليوم، وعلى الساعة السادسة مساء، كان عرض الرومانسية «نينا ريتشي». مصممها البريطاني بيتر كوبينغ ركز على هذه الرومانسية بعودته إلى أرشيفها ليأخذ منه كثيرا من العناصر التي مزجها مع بعض ليعطينا خلطة تفوح منها رائحة حنين إلى الماضي الجميل. استعمل كثيرا من الشيفون والحرير والألوان الفاتحة إلى جانب الأسود والمعادن، خصوصا الفضي البراق. لكن إذا كان التنوع ميزة تحسب لأي مصمم، فإنه في هذه التشكيلة سبب مشكلة وبعض الحيرة. باستثناء العنصر الرومانسي القوي فيها، افتقدت إلى تيمة واضحة تمنحها تماسكا. أما ما يحسب لها فهو فخامة أقمشتها ونعومة ألوانها، التي زاد جمالها بعد المجموعة التي أطلت علينا في البداية وغلب عليها اللون الأسود.

ألبير إلبيز مصمم دار «لانفان» الذي يحتفل هذا العام بـ10 سنوات على تربعه عرض الدار الفرنسية قدم تشكيلة، لولا عبقرية تصاميمها وحجم الإبداع فيها، لقلنا إنه نسي أنها موجهة للربيع والصيف وليس للخريف والشتاء. كانت الألوان الداكنة هي الغالبة، من الأسود والكحلي والنيلي مع قليل جدا من الأبيض زين جوانب وأطراف بعض القطع أو ظهر في جاكيت وقميصول، والأصفر المستردي الذي ظهر في فستان واحد، إلى جانب الرمادي المائل إلى البنفجسي الذي ظهر في 3 قطع تقريبا. لكن ألبير إلبيز أسكت كل الانتقادات بالفنية التي برهن عليها مرة أخرى في نحو 36 قطعة تقريبا، كل قطعة تميزت عن الأخرى بأسلوبها وقصاتها، بينما بقي القاسم المشترك بينها كلها تلك الحرفية العالية في التفصيل وابتكار التفاصيل، مما يجعل كل الهفوات تتحول إلى إنجازات.