ربيع وصيف 2013.. موسم العودة إلى الجذور

«هيرميس» تستعرض قوتها بهدوء وحرفية.. و«كلوي» و«سان لوران» تقدمان تحية للمؤسسين

TT

نعم، إنه أهم موسم باريسي يتلاقى فيه الماضي بالحاضر. فبعد أن نجح راف سيمونز يوم الجمعة الماضي في أول عرض له لدار «ديور»، قدم إيدي سليمان ليلة الاثنين، أول تشكيلة نسائية له على الإطلاق لدار «سان لوران» أو «إيف سان لوران» سابقا، مخلفا أصداء طيبة. سر نجاحهما أنهما فهما الماضي واحترما إرثه، لكن من دون تقديس، مما منحهما حرية إضافة لمساتهما الشابة على هذا الإرث، ليحملاه إلى الحاضر ثم المستقبل. بيد أن البلجيكي راف سيمونز والفرنسي التونسي الأصل إيدي سليمان، ليسا وحدهما من فهما أن التقدم نحو المستقبل يعني عدم التنكر إلى الماضي، فالفرنسي كريستوف لومير، مصمم «هيرميس» أيضا عانق إرث الدار ومبادئها مقدما تشكيلته الرابعة للدار. ولن نبالغ إن قلنا إنها أجمل ما قدمه لها لحد الآن، كذلك المصممة كلير وايت كيلر، التي قدمت ثالث تشكيلة لها لدار «كلوي» وكانت احتفالا بالمؤسسة غابي أهينيو، ورؤيتها السابقة لأوانها في عام 1952، عندما كانت أول من أطلق ما أصبح يعرف الآن بالأزياء الجاهزة.

«هيرميس»

* يؤكد كريستوفر لومير، موسما بعد موسم، أنه كلما تعمق في أرشيف الدار فهم شخصيتها أكثر، وزاد تمكنا من أدواته ووضوحا في رؤيته. أكبر دليل على هذا، تشكيلته الأخيرة لربيع وصيف 2013، التي عبر فيها عن هذه الثقة بلعبه على الحرفية التي تتغنى بها الدار منذ سنوات، وترجمها في كل قطعة بدءا من جاكيتات الجلد التي جاءت بأحجام مختلفة تميل في الغالب للاتساع إلى فساتين ناعمة أيضا من الجلد أو منسدلة من الحرير مستوحاة من الوشاح الذي تشتهر به الدار، والذي ظهر كذلك في عدة قطع منفصلة على شكل قمصان وبنطلونات. لكن المصمم لم يقتصر على الحرير والجلود، بل استعمل أيضا الساتان والدينم، مما أعطى العرض تنوعا كبيرا، ربما يكون الهدف منه تقديم كل ما تتمناه المرآة من أزياء وإكسسوارات لرحلة سفر أنيقة، أينما كانت الوجهة. فإلى جانب النقوشات التي تقدم دعوة مفتوحة لغابات أو شواطئ آسيوية، كانت هناك معاطف وجاكيتات باللون البيج تدعو لرحلة سافاري إلى أدغال أفريقيا، فضلا عن «شورتات» قصيرة لفتيات صغيرات. الألوان أيضا تنوعت متراوحة بين البيج الغامق والأحمر المغربي، والأخضر والفضي والأزرق، أحيانا اجتمعت كلها في قطعة واحدة مستحضرة أشكال ومكعبات الرسام الهولندي بيت موندريان وأحيانا أخرى فن الباروك خصوصا في القطع المستوحاة من الأوشحة. النقوشات الهندسية امتدت أيضا إلى القمصان والبنطلونات، مما زاد من حيويتها، لكن يبقى أجملها، ما يشبه الجاكيت مقفولا من الأمام والخلف يتسم بالاتساع وبمربعات صغيرة جدا تداخلت فيه كل ألوان التشكيلة تقريبا من أبيض وأسود وأحمر وأخضر. على الرغم من اختلاف هذه التشكيلة عما قدمه لومير في السابق، فإن بعض الرموز القديمة لا تزال حاضرة، ونذكر منها تلاعبه بالذكوري والأنثوي، من خلال جاكيتات نسقها مع ربطات عنق جد أنيقة، أقرب إلى الوشاح النحيف مربوط بإبزيم، أو بنطلونات واسعة والمعاطف الواسعة. كما أن كل ما في العرض يفتح النفس على السفر، وكل ما فيه أيضا يضج بالعصرية، بما في ذلك حقائب اليد بأحجامها وأشكالها المختلفة. والحقيقة أن «هيرميس» من بيوت الأزياء القليلة جدا التي لم تمسها الأزمة الاقتصادية، بفضل تمسكها بإرثها من جهة، والأهم بفضل قوتها في مجال الإكسسوارات. وأكبر دليل على هذا أن الحقائب لا تزال الدجاجة التي تبيض لها ذهبا، إلى جانب الأوشحة الحريرية. فحقيبة «كيلي» مثلا قد يتعدى سعرها الـ10000 يورو بكثير، فيما يقدر سعر إيشارب من الحرير بنحو 400 يورو، وعلى الرغم من هذه الأسعار، فإن الطلب عليها لا يخف أو يتراجع مهما تغيرت أحوال السوق، ويجعلها بمنأى عن الأزمة الاقتصادية الحالية.

من ناحية الأزياء، فهي الأخرى تشهد إقبالا متزايدا عليها في السنوات الأخيرة، لا سيما من قبل المرأة التي تبحث عن قطع كلاسيكية لمدى العمر، وفي الوقت تتميز بلمسة فرنسية بتوقيع الدار.

منذ 5 أسابيع تقريبا، وحين أعلنت دار «بيربيري» البريطانية عدم تحقيقها الأرباح التي كانت تتوقعها هذا العام بسبب تراجع مبيعاتها في السوق الصينية، نزل الخبر مثل الصاعقة على كثير من دور المنتجات المرفهة، خوفا من أن يصل إليها الدور. في المقابل، لم يهز الخبر «هيرميس»، لأنها من بين القلائل جدا الذين تحسبوا لهذا السيناريو واستعدوا له منذ سنوات، بمعانقتها الحرفية العالية والأسلوب الراقي الذي لا يعتمد على الاستعراض والبهرجة. نجح السيناريو، لأن المستهلك عموما، والصيني خصوصا، بدأ يعي أن الأناقة الحقيقية لا تعني البهرجة بقدر ما تعني الجودة والهدوء. لهذا فإن مستقبل هذه التشكيلة مضمون مثل مستقبل الدار، لأنها هي الأخرى تلعب على وتر الكلاسيكية العصرية بذكاء. فرغم أنه ليس هناك أي شيء مكتوب بالخط العريض بأنها «هيرميس»، فإن كل ما فيها يصرخ بذلك، وهذا ما تعشقه الأنيقات.

«كلوي»

* من جهتها، قدمت كلير وايت كيلر، مصممة دار «كلوي» أول من أمس درسا في الموضة عبر تشكيلة من شأنها أن تجعل حتى من لم تكن من المعجبات بالماركة من قبل تقع في غرامها الآن. تشكيلة قالت فيها المصممة البريطانية الأصل إن الأناقة الحقيقية والتعقيدات لا يجب أن يتلاقيا على الإطلاق. ولا شك أن المصممة التي بدت في الموسمين السابقين وكأنها تتلمس طريقها بين دهاليز وأرشيف الدار التي أسستها امرأة أرادت أن تمنح المرأة أزياء عملية وأنيقة بعيدة عن تعقيدات الهوت كوتير، وجدت المفاتيح التي تستفتح آفاقا جديدة لامرأة «كلوي». فهي هنا أكثر ثقة وراحة، مما انعكس على كل قطعة، من دون أن تنسى إضافة لمساتها المبتكرة. كل قطعة في هذه التشكيلة تعانق ما آمنت به المؤسسة غابي أهينيو، من أناقة سهلة وممتنعة في الوقت ذاته، سواء تعلق الأمر بالأشكال الواسعة والمنسدلة على الجسم التي ظهرت في الفساتين، أو الجاكيتات القصيرة المفتوحة من الخلف لتظهر منها قطع شفافة بالأبيض، أو تنورات وفساتين مزينة بالورود أو كشاكش تتطاير حينا من الأكمام والأكتاف وحينا من منطقة الصدر أو الخصر.

على الرغم من انسيابية كثير من القطع واستعمال البليسيهات، فإن كانت أكثر تفصيلا من قبل، وتختلف كثيرا عن أسلوب الـ«بوهو» الذي عانقته في فترة من الفترة. تفصيل ظهر في الأشكال الضخمة كما في جاكيتات مفصلة، الطويلة منها والقصيرة. تجدر الإشارة إلى أن الدار نظمت خلال هذا الأسبوع معرضا يتتبع 60 عاما من تاريخها يتتبع أكثر المراحل أهمية في هذا التاريخ منذ عام 1952 إلى الآن، بما في ذلك الفترة التي تسلم فيها كارل لاغرفيلد مقاليدها قبل ستيلا ماكارتني وفيبي فيلو.

«سان لوران»

* ليلة أول من أمس كان عرض «سان لوران»، أو بالأحرى عرض إيدي سليمان للدار التي أسسها الراحل إيف سان لوران، وكان من الصعب لحد الآن إيجاد مصمم يمكن أن يعوض الفراغ الذي خلفه منذ تقاعده في عام 2002 ثم رحيله. فلا المصمم توم فورد أعجب الراحل وشريكه بيير بيرجيه، ولا ستيفانو بيلاتي الذي لم يتم تجديد عقده، لأنه لم يحترم جينات الدار الوراثية. ثم جاء تنصيب إيدي سليمان لهذا الدور الكبير، الأمر الذي جعل الجميع يترقب عرضه على أحر من الجمر، وإن كان هناك استعداد مبدئي وضمني لتقبل أي شيء منه.

فهو محبوب من قبل وسائل الإعلام كما له صداقات كثيرة في الأوساط الفنية، فضلا عن أنه أكد خلال عمله كمصمم أزياء رجالية في «ديور» أنه مبدع. الأهم من هذا كله أنه يحوز دعم بيير بيرجيه الذي لا يعجبه العجب.

بيير بيرجيه لم يخفِ في تصريحاته سابقا أن التحدي كبير بالنسبة لأي مصمم يتسلم مقاليد الدار، لأنه «يصعب إعادة صياغة أعمال عبقري»، وشارحا: «إنها عملية تشبه في تعقيدها محاولة إعادة كتابات وليام فولكنر.. أن تضع بصمتك على اسم إيف سان لوران يتطلب كثيرا من الموهبة، والإيمان، والقوة والصلابة وإحساسا عميقا بالألوان».

وهذا كله أثبته إيدي سليمان ليلة الاثنين الماضي أمام جمهور يقدر بـ400 ضيف، من بينهم عز الدين علايا، دايان فون فورستنبورغ، ألكسندر وانغ، فيفيان ويستوود، مارك جايكوبس، مصمم دار «لوي فويتون»، بيتر دانداس، مصمم دار «إيميليو بوتشي»، ألبير إلبيز مصمم «لانفان»، ريكاردو تيشي، مصمم «جيفنشي»، وفكتوار دي كاستيلان، مصممة المجوهرات الراقية بدار «ديور». كان العرض أشبه بألبوم ذكريات، لأن الألوان كانت ألوان إيف سان لوران مثل الأزرق الذي استقاه من الفنان كلاين، والأحمر الذي استقاه من مدينة مراكش وتوابلها الساخنة وهلم جرا. التصاميم بدورها استحضرت أسلوب الراحل الذي أبدع الـ«توكسيدو» والقفطان ومزج الألوان بتضارب متناغم لم يتجرأ عليه أحد قبله. وطبعا لا يمكن أن تكتمل التحية لإيف سان لوران من دون استحضار صورة العارضة ثاليتا التي ألهمته لسنوات، وكانت السبب الذي جعله يقع في حب مدينة مراكش بالأساس. بعبارة أخرى، فإن كل الرموز القديمة أعادها إيدي سليمان بأسلوب عصري، مرضيا عشاق المصمم الراحل وشريكه بيير بيرجيه من جهة، وضامنا مكانته في واحد من أهم بيوت الأزياء العالمية من جهة ثانية، من دون أن ينسى أن يرضي نفسه وأن يقحم أسلوبه الخاص من خلال بضعة تايورات وبنطلونات ضيقة جدا ليزيد الحبكة إثارة.