المطربة فريدة لـ «الشرق الأوسط»: أتهيأ مع زوجي وفنانين عراقيين لإنجاز أضخم مشروع لتسجيل المقامات العراقية

أحيت مع فرقتها حفلا غنائيا على مسرح الباربيكان وسط لندن ضمن جولة أوروبية وعربية

المطربة فريدة في حفلتها مع فرقة «المقام العراقي» على مسرح «الباربيكان» بلندن («الشرق الأوسط»)
TT

وحدها، المطربة فريدة، تجمع بحضورها المميز العراقيين بمختلف أعمارهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية؛ حيث توحدهم بصوتها وأغانيها ومقاماتها العراقية الأصيلة.. أينما تحل في بلدان العالم، يتزاحم مواطنوها، إضافة إلى المتلقين العرب والغربيين، لحضور حفلاتها، فبعد قليل من بدء عزف موسيقى فرقة المقام «الجالغي البغدادي»، التي أسسها ويقودها الفنان الموسيقي محمد كمر، تطرب النفوس، وما إن ينطلق صوت «سيدة المقام العراقي»، وهذا هو لقب فريدة التي استحقته عن جدارة، حتى يبتهج الحضور ليرددوا معها أغانيها على إيقاع تصفيقهم التراثي.

أول من أمس، وبينما كانت الأمطار تغسل ليل لندن، غسل صوت فريدة حنين وأشواق العراقيين لليالي ضفاف نهر دجلة وشوارع بغداد وأزقتها، وذلك في صالة «الباربيكان» وسط لندن، التي تغني فوق مسرحها للمرة الأولى بعد أن كانت قد أحيت حفلها العام الماضي على مسرح دار الأوبرا الملكي البريطاني، حيث أحيت واحدة من حفلاتها المميزة والتي تألقت فيها متفاعلة مع جمهورها الذي انتظر حضورها بصبر فارغ.. أطلت «سيدة المقام» بثوب بغدادي تراثي بلون فيروزي.. لون من بوابة عشتار في بابل، ولتغني لما يقارب الساعتين مختارات من جديدها وقديمها المتجدد.

الحفل استهل بمعزوفات على تنويعة التراث الموسيقي البغدادي لفرقة المقام العراقي بقيادة كمر عازف الجوزة، وبمشاركة كل من: جميل الأسدي عازف القانون، وعدنان شنان عازف الناي، وعبد اللطيف العبيدي عازف العود، ومحمد لفتة عازف الرق، وفرات القريشي عازف الإيقاع، حيث تألق المبدع عبد اللطيف بعزف منفرد على آلة العود معيدا إلى ذاكرة الجمهور أمجاد أساتذة هذه الآلة؛ سلمان شكر وجميل بشير ومنير بشير، ومثبتا اسمه في قائمة أفضل عازفي العود عراقيا، كما تميز المبدع جميل الأسدي الذي يعد واحدا من أفضل أساتذة آلة القانون عراقيا، وكذلك عدنان شنان على آلة الناي.

ميزة هذه الفنانة التي تجيد أنواعا مختلفة من الغناء العراقي وتتربع بمفرها، صوتا نسائيا، فوق قمة المقام العراقي، أنها تغني في أي حفلة بتميز واضح يختلف عما سبقه من حفلات، مشيدة بهذه الطريقة إنجازا إبداعيا في فن الغناء العراقي يسجل باسمها، من دون أن تقلد أحدا، مستهلة حفلتها الغنائية بمقام شرقي «رست» وأغاني «يا بنية ويا بنية» ومتغزلة في «أم العباية» بأغنية «يم العباية.. حلوة عباتك.. يا سمرة هواية حلوة صفاتك»، قبل أن تنقل جمهورها إلى واحد من المقامات المألوفة عراقيا مع أغنية تراثية للثنائي العراقي فلفل كرجي؛ كاتب الكلمات، والملحن صالح الكويتي، حيث يعد هذا الثنائي، وهما من يهود العراق، من مؤسسي وواضعي أصول موسيقى المقام العراقي الحديث في نهاية الأربعينات من القرن الماضي من خلال فرقة «الجالغي البغدادي»، إذ أدت مقام «دشت» وأغنية «آه منك»، لتغازل بعدها حنينها قبل حنين الجمهور بأغنية «يا حمام النوح» التي يطلبها منها جمهورها أينما حلت، والأغنية من مقام «العجم» ومن ألحان صالح الكويتي.

ثم تبعتها بسلسلة من الأغاني التراثية العراقية، مثل «دشداشة صبغ النيل» و«يالزارع البزرنكوش» و«هذا مو إنصاف منك غيبتك تطول» من كلمات إبراهيم وفي وألحان صالح الكويتي، و«على شواطئ دجلة.. مر» من ألحان جميل سليم.

وعلى الرغم من أن هذه الأغاني والمقامات تراثية، فإن الفنان الموسيقي محمد كمر أعاد توزيعها الموسيقي وإعداد ألحانها بما يتناسب مع روح العصر وذائقة المستمع اليوم من دون المساس بجوهرها.

فريدة أعربت لـ«الشرق الأوسط» عن سرورها بأن «أكون بين جمهوري في لندن، وهو جمهور متميز وذواق ومتنوع، بينه أكاديميون وكتاب وفنانون ومستمعون متابعون بحرص وبحس عال للمقام العراقي والأغاني البغدادية. والغناء أمام مثل هذا الجمهور يحملني مسؤولية إبداعية، وأن أقدم الأفضل».

ومن يتتبع مسيرة هذه الفنانة، يدرك أنها كانت، ولا تزال، تذهب إلى الاختيارات الصعبة.. إلى المناطق التي يعجز الآخرون عن الوصول إليها، وأعني مناطق الغناء العراقي، فهي اختارت أن تدرس العزف على آلة العود في «معهد الدراسات النغمية» («الموسيقية» حاليا) عام 1985 حيث ندر أن تختار فتاة دراسة هذه الآلة الصعبة وفي ظل وجود أستاذ هذه الآلة الموسيقار «الراحل» منير بشير مشرفا على المعهد ومديرا عاما للفنون الموسيقية بوزارة الثقافة، وعرف عنه (بشير) تطرفه في تدريس هذه الآلة ومتابعة من يدرسها. ونجحت فريدة في هذا الاختبار إلى جانب اختبار آخر انفردت هي به دون غيرها؛ ألا وهو دراسة وأداء المقام العراقي؛ إذ عرف أن لهذا الفن التراثي الصعب فرسانه من الرجال أصحاب الحناجر القوية، وجاءت فريدة لتمنح بصوتها الأنثوي مسحة عاطفية أكثر رقة لأداء المقام، وسبحت ضد التيار الرجولي ونافستهم في عقر دارهم؛ مما أغضب بعضهم وراح يطلق التصريحات ضدها معتبرا دخول المرأة إلى عالم المقامات تقليلا من شأنه، وراهنوا على عدم نجاحها، متناسين أن فنانات عراقيات قبلها أمثال سليمة مراد وزكية جورج ومائدة نزهت، أديْن بعض المقامات وليست كلها، وإن لم يكنّ قارئات للمقام بالمعنى الواضح.

بعد أن تجتاز سنوات دراستها بنجاح وتحصل على دبلوم فن «قسم المقام العراقي وآلة العود» عام 1990، تم اختيارها لتدريس مادة المقام العراقي في معهد الدراسات الموسيقية في بغداد بين 1990م و1997م، وبهذا تكون أول امرأة تعمل أستاذة لهذه المادة في المعهد. لكنها قبل ذلك كانت قد أدت أغاني ومقام الدشت مع فرقة الفنان إلهام المدفعي الذي قدم الموسيقى والأغاني العراقية التراثية بأسلوب الجاز الغربي، وكانت هذه من أولى تجاربها الفنية الاحترافية وفي وقت مبكر من عمرها، و«بوصفها موهبة واعدة جاء بها الفنان الكبير منير بشير إلى فرقة التراث الموسيقي، طلب من أستاذ المقام العراقي وأحد الذين عملوا على تحديثه الفنان حسين الأعظمي تدريبها وتعليمها بعض المقامات العراقية.. وبعدها ارتأى بشير أن تتدرب الفنانة الفتية برفقة آلة موسيقية.. فاعتنى عازف السنطور في الفرقة الفنان سعد عبد اللطيف بهذه الموهبة فانتظمت تدريباتها».

تعلمت الفنانة فريدة في فترة دراستها مقامات عديدة وصلت إلى الأربعين مقاما، ويقول الفنان حسين الأعظمي عنها: «لم أكن مدرسا لها؛ بل مرشدا لموهبتها وبما تحتاجه لصقل هذه الموهبة، وبهذا امتلكت فريدة الريادة بين قريناتها ممن أديْن المقام العراقي من النساء، إضافة إلى أنها أول مطربة تحصل على شهادة دراسية أكاديمية في الموسيقى».

حملت فريدة ومن خلال «مؤسسة المقام العراقي» التي أنشأها زوجها الفنان الموسيقي محمد كمر، ومقرها هولندا، مسؤولية نشر الغناء والمقام العراقي عبر العالم، في حين أن هذا الفن يكاد يخفت صوته تماما في موطنه الأصلي بغداد، بعد أن اختفت الفرق الموسيقية التراثية وغاب قارئو المقام العراقي عن المشهد الموسيقي بسبب الإدارة غير الناجحة للموسيقى والغناء من قبل وزارة الثقافة، وكما تراجعت عناوين مهمة في الثقافة العراقية، تراجعت كذلك الموسيقى التي لم يعد لها حضور في الصالات الفنية ولا النوادي الاجتماعية وتمت محاربة الفنانين بحجج متخلفة وظلامية.

ومنذ أن تركت فريدة وفرقة المقام العراقي في نهاية التسعينات العراق، وهم يقيمون حفلاتهم على طول وعرض المعمورة، مرات في أميركا وكندا وأوروبا، ومرات كثيرة في العالم العربي، وستحيي هذه الفنانة وفرقتها حفلا بعنوان «يوم عراقي» على مسرح «السخاو بيرخ» في مدينة آرنهم في هولندا يوم 19 من الشهر الحالي، تتبعها حفلة في العاصمة القطرية الدوحة في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وحفلة في باريس في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل قبل أن تقوم بجولة فنية في الجزائر في النصف الثاني من نوفمبر المقبل، إضافة إلى أنها تتهيأ للمشاركة بعمل تصفه بـ«الضخم لتسجيل مقامات ضمن مشروع تسجيل وتوثيق المقامات العراقية الذي يضطلع به زوجي الفنان محمد كمر».

يقول كمر لـ«الشرق الأوسط» متحدثا عن مشروعه: «لأهمية المقام العراقي الذي يشكل مرتكزا ومصدرا للإبداع الموسيقي والغنائي لما يتمتع به من إمكانات تعبيرية وجمالية تساهم في تربية الذوق الفني الرفيع وتضيف الجديد إلى الساحة الغنائية والموسيقية العربية عبر المحاولات المتواصلة لاجتهادات مؤسسة المقام العراقي في هولندا على الصعيدين النظري والتطبيقي، يأتي مشروع تسجيل وتوثيق المقامات العراقية بأسلوب تقني متطور ومن خلال أصوات احترافية ومؤهلات أكاديمية معروفة في الساحة الغنائية المؤدية لهذا الفن العريق، وهم الفنانون: فريدة وحسين الأعظمي وسعد الأعظمي وحامد السعدي، وهؤلاء هم الذين يضطلعون بمعرفة عميقة وأكاديمية بأصوله وقواعده الأدائية في محاولة لمقاومة حركة النسيان والتشويه لهذا الفن الأصيل من خلال مشاركاتها على المستويين العربي والعالمي، ساعية لتحقيق هذا الهدف الكبير». وينوه كمر «بالمؤسسات التي قامت بدعم الجزء الأول من مشروعنا؛ ومنها اليونسكو، ومكتب العراق في عمان، والصندوق العربي للثقافة والفنون، و(آفاق) في بيروت، ومؤسسة (لارسا) في هولندا»، منتظرا من «وزارة الثقافة العراقية تنفيذ وعدها بدعم هذا المشروع الكبير اعتمادا على وعد بخصوص تمويل ودعم المشروع من قبل وزير الثقافة العراقي وفوزي الأتروشي رئيس مشروع (بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013)، ومنذ أكثر من سنة ما زلنا بانتظار تنفيذ الوعد».