في أسبوع باريس للأزياء.. نسمة صيف منعشة في «شانيل»

«باكو رابان» تلعب على الإثارة الحسية.. وغاليانو الغائب الحاضر

TT

إذا كان المصممان راف سيمونز وإيدي سليمان يثيران حماس أوساط الموضة حاليا، لما يمثلانه من دم جديد وفورة الشباب، فإن كارل لاغرفيلد، الذي سيحتفل بعامه الـ80 في العام المقبل، أكد أنه أكثر قوة من أي شاب في العشرينات، وأن جذوة الشباب لا تزال مشتعلة بداخله تحفزه وتمتعنا في الوقت ذاته.

صباح يوم الثلاثاء كان الموعد مع اقتراحاته لربيع وصيف 2013 في «لوغران باليه»، الذي أصبح بمثابة البيت الرسمي لعروض «شانيل» منذ سنوات. موعد قدم فيه 81 قطعة في ما يعتبر رقما قياسيا في عالم الموضة، أو ربما فقط عالم «شانيل»، ومع ذلك لم يشعر أي أحد بالملل أو التعب، حيث مرت أمام العين مثل النسمة الرقيقة. والفضل في هذا لا يعود إلى المراوح الهوائية التي بدأت في الدوران قبل انطلاق العرض بدقائق، بل إلى التصاميم نفسها. لاغرفيلد، كما عودنا دائما، يحرص على التفنن في تصميم ديكورات «لوغران باليه» بنفس القدر الذي يهتم فيه بتصميم أزيائه، بغض النظر عن المصاريف، وهذه المرة نصب ما لا يقل عن 13 مروحة هوائية على طول المنصة، تبين أنه لم يكن ينوي من خلالها إيصال أي رسالة لحماية البيئة أو زيادة الوعي بها، وأن فكرته منها كانت مجرد رد فعل طبيعي للحر. فقد اعترف لوكالة «رويترز» بعد العرض بأنه بدأ برسم هذه التشكيلة في سانت تروبيز في فصل الصيف، ولأن «الجو كان حارا للغاية اشتقت إلى نسمة هواء منعشة» حسبما قال.

من هنا ولدت فكرة المراوح الهوائية الضخمة كخلفية درامية للعرض لا أقل ولا أكثر. لكن دراميتها سرعان ما توارت عن البال بمجرد خروج العارضة الأولى بجاكيت قصير يميل إلى الاتساع باللون الأسود رصعته حبات لؤلؤ كبيرة مع تنورة ضيقة وقصيرة من الجلد. تلاه تايور مماثل باللون الأبيض مع تنورة مستديرة هذه المرة، زادها اللؤلؤ المرصوص جمالا وبريقا وفستان، ثم تايور وبنطلون ضيق وهكذا. فبعد دقائق، تبين أن التايور لن يكون البطل الوحيد في هذه التشكيلة، وأن البطولة ستكون مشتركة بينه وبين الفستان والبنطلون الضيق تحديدا، فضلا عن جاكيتات منفصلة قصيرة على شكل «بوليرو»، كانت أجملها تلك المطرزة عند الحواشي أو المرصعة بالأحجار أو بأزرار من اللؤلؤ.

تجدر الإشارة إلى أن اللؤلؤ جزء لا يتجزأ من شخصية دار «شانيل»، إذ ارتبط بالمؤسسة غابرييل، التي كان لها الفضل في إدخاله مجال الموضة عندما استعملته في عقود بعدة صفوف ومزجت الطبيعي منه مع غير الطبيعي لمظهر حيوي وعصري. لهذا، ليس غريبا أن تعود إليه الدار، دائما بأشكال مختلفة، أحيانا لتزيين الشعر أو لصياغة أو ترصيع حقيبة يد صغيرة أو حزام، مثلا. الجديد فيه هذه المرة أنه اكتسب حجما ضخما أضفى عليه جمالية غير متوقعة. لم يكن الرمز هو الوحيد الذي لعب عليه المصمم، فقد كانت هناك رموز أخرى ارتبطت بالدار، مثل التويد الذي زادت نعومته، والفستان الأسود الذي تنوعت ألوانه وقصاته، وطبعا التايورات. القاسم المشترك بين كل هذه التصاميم ترجمتها العصرية التي تقول إنها خاصة بامرأة شابة، تتمتع بحياة اجتماعية غنية. فهذه المرأة على ما يبدو تحتاج إلى أزياء للنهار والمساء، وأزياء للعمل وللعب، وأخرى للسفر والتسوق، ومن هنا كان هذا العدد الهائل من الاقتراحات المتنوعة، حتى تفي بكل الأغراض والمناسبات. تنوع يتجسد في أقمشتها التي تراوحت بين التويد والموسلين والجلد والقطن والكتان، وألوانها التي تباينت بين الأبيض والأسود والبني والبنفجسي والوردي والأخضر والأزرق. كانت هناك أيضا نقوشات مبتكرة ظهرت في مجموعة أنيقة من الفساتين والبنطلونات من الموسلين المقصوص من الجوانب بطريقة يبدو فيها وكأنه ريش. وبينما أخذ التايور أشكالا أكثر حيوية تميل فيها التنورات إلى الطول القصير، سواء كانت مستقيمة أو مستديرة، فإن الفساتين الناعمة هي الأخرى أخذت منحى يجمع الكلاسيكية بالابتكار، مثل فستان أسود بياقة عالية وحواشي أكمام بالأبيض، قد يعطي الانطباع بأنه محتشم للغاية لولا فتحة جانبية عند التنورة تكشف عن قماش لامع من تحته، ومجموعة أخرى طرزها بالورود وجعلها ضيقة من دون فتحات بحيث يصعب المشي فيها لتستحضر لنا مشية فتيات الغيشا. لكن الغالب في هذه الفساتين هو تلك الراحة والانسيابية التي تتمتع بها وتذكرنا بأن الأناقة الحقيقية يجب أن تكون، أو على الأقل تعطي الانطباع، بأنها غير متكلفة وبسيطة.

وإذا كانت الأزياء تركت الكل يُقر بأن كارل لاغرفيلد أستاذ في مدرسة السهل الممتنع، فإن الإكسسوارات جعلت الكل يضعها في قائمة مشترياته للموسم المقبل. طبعا القبعات الضخمة ذات الحافات المصنوعة من البلاستيك كانت للإثارة فقط ولا يمكن تطويعها للواقع، كذلك حقيبة لافتة بضخامتها واستدارتها. أما في أرض الواقع، فإن الحقائب الصغيرة الحجم ذات الألوان المتنوعة كانت شهية إلى جانب الأحذية السوداء الكلاسيكية والصنادل الهندسية التي تميزت بخطوط بالأبيض والأحمر والأزرق.

في المساء، وقع الدور على دار «ألكسندر ماكوين» لإنهاء يوم حافل وغني. تم ذلك على الساعة الثامنة مساء في الجادة الـ19، الأمر الذي كان يحتاج من مصممة الدار، سارة بيرتون، لأن تبرر اختيارها للمكان أو على الأقل تجعل الرحلة تستحق العناء. ولم تخيب الآمال، فرغم أنه لا أحد فهم لماذا اختارت المكان، فإنها قدمت تشكيلة مكونة من 31 قطعة أعادت إلى الأذهان أسلوب ماكوين الجامح في فنونه وجنونه. وهذا وحده كان يستحق عناء الرحلة والانتظار على حد سواء. فقد استعملت جاكيتات مفصلة مستوحاة من الخمسينات ومصنوعة أحيانا من القطن وكأنها دروع واقية، طبعت عليها حشرات مختلفة، مما يفسر استعمال العارضات قبعات واقية تغطي وجوههن. معظم القطع جاءت محددة عند الخصر، أحيانا بحزام لزيادة الدراما، كما تميزت معظم البنطلونات بنقوشات تمثل النحل وشهده. تأثير الخمسينات ظهر أيضا في تنورات طويلة تميل إلى الاستدارة تم تنسيقها مع كورسيهات مستوحاة من القرن التاسع عشر. كالعادة تبدو الاقتراحات على منصات العرض ثقيلة، لكن كل قطعة على حدة تبرز قدرة سارة بيرتون على التفصيل وتمكنها من لغة العصر التي تتكلمها بسلاسة.

قبلها وعلى الساعة الرابعة في «لوغران باليه» قدمت المصممة ليديا موري أول تشكيلة لها لدار «باكو رابان». وكانت عبارة عن جولة في أرشيف الدار رجعت فيها إلى الستينات حيث أعادت صياغة الاسطوانات الصغيرة على فساتين قصيرة، مثلا. لكن اللافت في العرض ككل تلك النغمة الحسية المثيرة الواضحة، التي تذكرنا بأن الستينات هي الحقبة التي شهدت تحرر المرأة من الكثير من القيود. وهذا ما جاء واضحا في الكثير من هذه التصاميم المثيرة التي تكشف مفاتن الجسم أكثر مما تخفيه، بعضها مشبوك من الجوانب بأسطوانات معدنية صغيرة، مستحضرة فنية السيد باكو رابان الذي بدأ حياته كمصمم مجوهرات.

في عرض المصمم السنغافوري أندرو جي إن، كانت النغمة مختلفة تماما. فقد قرر أن يلعب دور الوسيط بين الشرق والغرب في تشكيلة تغلب عليها لمسات بورجوازية، نقلنا فيها من باريس إلى جايبور وبكين مرورا ببريطانيا. عنوان التشكيلة «الملكة إليزابيث الثانية في زيارة إلى الهند واليابان»، وهو عنوان يلخص فكرته، وإن كانت الصورة التي أتحفنا بها هي لملكة شابة في الثلاثين من العمر على أكثر تقدير وليس لملكة تتعدى الثمانين. لم يقدم أي قطعة للنهار أو المناسبات العادية، فكل ما قدمه كان ملائما لحفلات كوكتيل مقامة في حدائق غناء، أو حفلات عشاء في بلاطات وقصور فخمة، بما في ذلك القمصان الحريرية والتنورات المستقيمة، ناهيك عن الفساتين الضيقة أو الطويلة ذات الياقات الدرامية والتطريزات الغنية ذات الإيحاءات الهندية.

اسم جون غاليانو لا يزال يثير الكثير من المشاعر المتضاربة. فغريب أن تتوجه إلى عرضه وهو مختف من الساحة منذ طرده من دار «ديور» في بداية العام الماضي. مساعده وذراعه اليمنى لأكثر من 14 سنة، بيل غايتون، هو الذي خلفه في داره الخاصة وفي «ديور» قبل تعيين البلجيكي راف سيمونز، ويبدو أنه الآن تفرغ أكثر لدار «جون غاليانو» ولم يعد بإمكانه أن يتحجج بأن مسؤولياته كثيرة تشتت أفكاره. وما لوحظ في تشكيلته لربيع وصيف 2013، أنه وضع كل طاقته فيها، وكأنه يشعر بأن هذه فرصته ليخلق أسلوبا ربما يُنسي عشاق الدار الأوفياء اسم جون غاليانو ويخفف من ولائهم له، حيث اجتهد أكثر من أي وقت مضى في تقديم كل ما لديه من لمسات إبداعية. فقد ابتعد عن الدراما وركز على التفصيل والفنية، وإن ظلت تطالعنا بين الفينة والأخرى لمحات من الماضي على شكل طيات فنية وأحجام ضخمة وتقنية الأوريغامي التي أخذتنا إلى أجواء اليابان. لكن للأسف، رغم كل محاولاته وابتكاراته، فإن المقارنة بينه وبين جون غاليانو لن تختفي بسهولة ما دام اسم هذا الأخير موجودا على بطاقات الدعوة وخلف ياقات كل قطعة. فغاليانو سيبقى بمثابة الشبح الذي يصعب التخلص منه ومن أسطورته.