دراسة فرنسية جديدة: العسران نسبتهم 27% بين الشعوب الميالة إلى العنف

نسبة عالية ممن يستعملون أيديهم اليسرى بين الرياضيين والموسيقيين

العسران يشكلون نسبة عالية من الموسيقيين والعازفين الجيدين، بدءا ببيتهوفن وموزارت وانتهاء بفيل كولينز و«البيتل» بول مكارتني
TT

كتب الحائز على جائزة نوبل للآداب، الألماني غونتر غراس، قصته القصيرة «العسران» في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وأشاع بها، وهو أعسر، الكثير من المرح حول متاعب العسران مع أيديهم اليسارية. وتنتهي القصة بأن يطلق اثنان من العسران النار، في توقيت واحد، على اليد اليسرى لكل منهما، في محاولة للخلاص من هذه «العاهة اليسارية».

تسلط هذه النهاية الكوميدية السوداء الضوء على نظريات قديمة، واعتقادات غير ثابتة، تقول إن العسران أكثر ميلا إلى العنف من غيرهم، وإن استخدامهم اليد اليسرى يربك المقابل، سواء في المعارك المسلحة أو في الرياضة وما إلى ذلك من نشاطات يدوية يومية.

دراسة جديدة من جامعة مونبلييه، حول الشعوب القديمة، قد تؤكد ما يقال، أو يفترض أن يقال عن العسران، عن أن «يساريتهم» منحتهم الحظوة في التقدم والتطور على نظرائهم اليمينيين.

حلل العلماء من جامعة مونبلييه نتائج البحث في تاريخ بعض الشعوب التقليدية شبه المنعزلة اليوم، مثل الانويت في الاسكا، والديولا في بوركينا فاسو. وقارن الباحثون هنا بين نسبة العسران في المجتمع، ونسبة الجرائم المرتكبة، ومسؤولية العسران عنها.

وقالت شارلوته فورييه، رئيسة مجموعة العمل، إن نسبة العسران بين الشعوب الأقل ميلا إلى العنف لا تزيد عن 3 في المائة، في حين تتراوح النسبة العالمية بين 5 - 15 في المائة. وظهر من البحث أن نسبة العسران بين الأقوام المحاربة، أي الميالة إلى العنف، ترتفع إلى 27 في المائة.

وترى فورييه أن هذه الظاهرة تكمن في سببين: الأول هو أن العسران يملكون الأفضلية في القتال، لأن مواجهيهم يمينيون في معظم الحالات، وهم محاربون لا ينتبهون إلى اليد اليسرى للخصم. هذا الوضع أتاح للعسران السبب الثاني وهو فرصة النجاة من الموت في القتال أكثر من فرصة اليميني، وبالتالي فإن فرصته في البقاء والتناسل وإنجاب الأطفال العسران أكبر.

وحسب رأي فورييه فإن انتقال عسر اليد بالوراثة أصبح ثابتا في العلم. وتثبت الأبحاث العلمية أن فرصة ولادة طفل أعسر لأبوين يمينيين لا تتجاوز النسبة الطبيعية البالغة 2 في المائة، في حين أن احتمال ولادة طفل أعسر لأبوين أعسرين ترتفع إلى 46 في المائة.

هل تنطبق هذه الحال على الشعوب المتقدمة والكبيرة؟ ترى الباحثة الفرنسية أن ذلك متعذر، لأن البحث الذي أجرته جامعة مونبلييه اقتصر على الشعوب الصغيرة التي يمكن تتبع نتائج تناسلها وتطورها بسهولة. ولهذا لا يمكن للرئيس باراك أوباما أن يتحول إلى ديكتاتور فقط لأنه أعسر، رغم أن التاريخ العالمي يشير بوضوح إلى دور العسران فيه. فالديكتاتور الألماني أدولف هتلر كان أعسر، وكان الطاغية الجورجي (السوفياتي) جوزيف ستالين أعسر أيضا. مع ذلك فقد كان التاريخ الأميركي في السنوات الأخيرة «أعسر»، لأن بيل كلينتون وجورج بوش الأب ورونالد ريغان كانوا من العسران.

علق العالم الألماني شتيفان غوتفينيسكي، الباحث في علم الأعصاب من مستشفى «برلين شاريتيه»، على الدراسة بالقول إن الدراسات التاريخية تثبت أن العسران كانوا أهم مكتشفي الأسلحة وطرق استعمالها على مر العصور. وهناك أحاديث، في المجتمعات القديمة، عن العسران قبل ظهور الكتابة، ولهذا فإن العسران ظاهرة قديمة جدا، ولا تقتصر على الكتابة. والبحوث في الكهوف القديمة وتاريخ الإنسان القديم تثبت أن تاريخ العسران يعود إلى مليون سنة خلت.

وتبدو الصورة، من ناحية تاريخية، مختلفة أيضا لأن نسبة اليمنيين واليساريين بين الحيوانات متساوية تقريبا، في حين يعيش الأعسر في مجتمع يميني يشكل مستخدمو اليد اليمنى فيه بين 85 - 90 في المائة. ويعتقد العلماء أن هذه النسب ثابتة تقريبا منذ آلاف السنين، وهذا قد يعني أن العسر لم يكن مجرد ميزة إيجابية للأعسر، وإنما كان ميزة سلبية في بعض الأحيان. فلو كان العسر حظوة فقط لكانت نسبة العسران قد ارتفعت، والعكس صحيح، لأنه لو كان العسر «كارثة» على الأعسر لانقرض منذ زمن طويل.

ويرى غوتفينيسكي أن ظاهرة العسران ليست أكثر من «نزوة» من نزوات الطبيعة، حالها حال الشعر الأحمر. والفرق هو أن الشعر الأحمر لم يكن يوما أفضلية لصاحبه، في حين أن العسر أفضلية، بشكل ما، للأعسر. مع ذلك تقاوم ظاهرة الشعر الأحمر التاريخ وتستعصي على الانقراض.

وهناك دراسات علمية تحليلية تشي باختلاف ظاهر بين اليمينيين واليساريين في استخدام نصفي الدماغ الأيمن والأيسر. ففي 98 في المائة من الحالات يستخدم اليميني نصف الدماغ الأيسر في نشاطه العضلي، في حين يستخدم الأعسر كلا النصفين في نشاطه، وتنطبق هذه الحال على الكلام أيضا، لأن الأعسر يستخدم ثلث نصف الدماغ الأيسر أيضا في حديثه.

ربما أن هذا الفرق منح الحظوة للعسران على حساب اليمينيين. وهذا ينطبق في الأقل على بعض أنواع الرياضة مثل التنس والمبارزة والملاكمة، إذ تبقى حركة الأيسر مربكة للخصم مهما تدرب اليميني مع مدرب أعسر. وترتفع نسبة العسران الأبطال والبارزين في هذه الرياضات إلى 20 - 50 في المائة. وربما أن الأميركي جون ماكنرو، أحد أفضل لاعبي التنس في العالم، هو أفضل مثال على الحظوة «اليسارية»، لأنه يجمع بين إجادة اللعب، والمباغتة، والمزاج الحاد المتقلب.

القضية تبدو واضحة أيضا في المجال الموسيقي لأن العسران يشكلون نسبة عالية من الموسيقيين والعازفين الجيدين، بدءا ببيتهوفن وموزارت وانتهاء بفيل كولينز و«البيتل» بول مكارتني. وهذا رغم أن معظم الأجهزة الموسيقية مصنوعة عادة لأناس يستخدمون أيديهم اليمنى.

هذا ما يؤكده جون إيغلتون من جامعة كارديف في ويلز، فقد لاحظ الباحث أن نسبة العسران بين الموسيقيين الجيدين عالية، وتفوق نسبتهم في المجتمع. ويعزو عالم الأعصاب هذه الظاهرة أيضا إلى استخدام الموسيقي الأعسر لنصفي دماغه الأيسر والأيمن في السيطرة على آلة العزف. وقد يعود ذلك إلى أن العسران يدربون أيديهم اليسرى على العمل أكثر مما يدرب اليميني يسراه. هذا لأن عالم اليوم مهيأ أساسا لمستخدمي اليد اليسرى، وهذا يفسر الأعسر على استخدام اليد اليمنى. مثال ذلك استخدام الماوس في الكومبيوتر ومضارب لعبة الغولف... إلخ. فضلا عن ذلك يعترف الكثير من الموسيقيين الأعسرين بأنهم يتدربون أكثر من اليمينيين على العزف تجنبا لارتكاب الأخطاء التي ترتبط عادة بأيديهم اليسرى. ومن الناحية العلمية التشريحية، حسب إيغلتون، يستخدم العسران نصف الدماغ الأيسر في السيطرة على حالات التوتر والارتباك، التي قد تترافق عادة مع العزف أمام جمهور كبير. وهناك دراسات بالأشعة تثبت أن العقد الرابطة بين عمل نصفي دماغ الأعسر أكبر بكثير، وأكثر تشعبا، منها في أدمغة اليمينيين، وهذا يتيح لهم استخدام نصفي الدماغ بمهارة في العزف.

وتوصلت دراسة أميركية مشتركة بين جامعتي لافاييت وجون هوبكنز عام 2006 إلى أن العسران في المجتمع الأميركي يتمتعون بمداخيل تزيد 10 - 15 في المائة على مداخل نظرائهم اليمنيين من نفس السن والخبرة والشهادة والقدرات.

على أية حال، يواجه الكثير من العلماء النظرية حول العنف في المجتمعات، وأن الصغيرة والتقليدية منها، والعسران، بالكثير من الريب. ويعتقد هؤلاء أن المقارنة بين الأعسر المتسامح ليوناردو دافنشي والأعسر «العدواني» جون ماكنرو تكفي لتبديد كل الشكوك حول علاقة العسران بالعنف.

جدير بالذكر أن العالم خصص يوم 13 أغسطس (آب) من كل عام للاحتفال بيوم العسران، في محاولة لتذكير العالم بمشكلاتهم في «عالم أيمن». وهناك اليوم شركات تتخصص بصناعة الأجهزة والأدوات للعسران، وتمتد هذه الصناعة بين الكومبيوترات والمقصات وفتاحات العلب ومضارب التنس.