أسبوع اسطنبول لربيع وصيف 2013.. استراتيجية المدى البعيد

الحكومة تسد الأبواب على المنافسة وتفتحها أمام مصمميها للانطلاق نحو العالمية

TT

عرضه ينجح دائما في جذب النخبة والطبقات الارستقراطية، سواء التركية أو الأوروبية، لكن على غير العادة جلب أتيل كوتوغلو، الذي يعيش في النمسا منذ سنوات، لنفسه أول من أمس الأربعاء اهتماما لسبب مختلف. سبب من شأنه أن يسبب الأرق لأي مصمم عمل لأسابيع إن لم نقل أشهرا لإبداع تشكيلة يريدها أن تصل إلى العالم في أجمل صورة، لكن لسوء تقدير منه يحصل على نتيجة عكسية. المشكلة أنه استعان بفتاة المجتمع تامارا إكلستون، ابنة بيرني إكلستون، مالك الحقوق التجارية لبطولة العالم للفورميولا - 1، التي ظهرت في عرضه بقطعتين أبرزتا عيوبها عوض أن تبرزا جمالها أو قدرتها على المشي بثقة على منصة عرض. فقد تفاجأ الحضور في بداية العرض بظهور فتاة ممتلئة نسبيا مقارنة بالعارضات، في فستان قصير وضيق جيدا لم تبد مرتاحة فيه على الإطلاق. وكأن هذا لا يكفي، أرسلها المصمم في نهاية العرض بقطعة تحدد تقاطيع الجسم ومطرزة بالكامل بالترتر والخرز باللون الأخضر تركت طعما مرا في الفم، لم تستطع العارضة التي ظهرت بفستان مشابه لكن رحيما أكثر بالجسم، أن تمحوه. مما لا شك فيه أن الفكرة من استضافتها في عرضه خلال أسبوع اسطنبول لربيع وصيف 2013، كانت لإضفاء بعض البهار والبريق على يوم طويل من العروض بدأ من الساعة الـ11 صباحا ولم ينته إلا على الساعة العاشرة مساء. لكن ما لم ينتبه له أتيل كوتوغلو أنه لم يكن يحتاج إلى أي بريق «زيادة» لأن تشكيلته كانت كافية لخلق ذلك الإحساس. فقد كانت أجمل ما قدم طوال اليوم، بما في ذلك المجموعة الأخيرة التي رصعها بالترتر والخرز لتبرق مع كل خطوة خالقة تأثيرا ثلاثي الأبعاد في بعض الفساتين. إلى جانب هذه المجموعة قدم قطعا منفصلة تخاطب كل الأذواق، شملت نحو الستين قطعة، من ملابس البحر إلى فساتين السهرة والمساء مرورا بأزياء النهار والعمل، بل كانت هناك أيضا قطع للرجل، وإن كانت تعد على أصابع اليد الواحدة. على الرغم من قوتها، انصب الحديث عن اختياره لفتاة المجتمع، وسوء اختياره للقطع التي ظهرت بها، إذ كان حريا به على الأقل أن يختار لها ما يناسب تقاطيع جسمها حتى يجعل المرأة التي لا تتمتع بمقاييس العارضات تحلم بها.

قبل كوتوغلو، قدمت المصممة ديليك حنيف Delek Hanif تشكيلة تحن إلى الماضي، وإلى الخمسينات تحديدا، بفساتينها الضيقة عند الخصر وتنوراتها المستديرة التي غطت معظمها بستارة من التول أو الموسلين، واستعملت فيها قدرتها على تفصيل فساتين تحاكي الأزياء الراقية، بحكم أنها تشارك في باريس خلال موسم «الهوت كوتير». كانت هناك أيضا نقوشات خفيفة وألوان ناعمة مثل الأخضر والليلكي والبيج والوردي، قالت المصممة إنها استوحتها من أعمال الفنانة ماري كاسا. على الرغم من أنه من الصعب القول إن تشكيلتها لربيع وصيف 2013 هي أفضل أو أقوى ما قدمته لحد الآن، لكنها حتما تخاطب شريحة معينة من النساء الكلاسيكيات والمحافظات نوعا ما ممن يردن أزياء مضمونة لا تخلو من ديناميكية بفضل الألوان والخطوط التي تتباين بين الضيق عند الخصر والمنسدل إلى تحت الركبة. ما يحسب لها، مثل كل المصممين المشاركين في الأسبوع، أنها استعملت أقمشة مصنوعة محليا في تركيا تشجيعا لهذه الصناعة التي تريد أن تتوسع إلى كل أنحاء العالم. وهذه استراتيجية تركية ترجمتها ماركة «تريكو ميسيرلي» Triko Misirli بطريقة حرفية تقريبا. فقد استعمل مصممها، لا هونغ نات La Hong Nhut صوف الكشمير المغزول بالحرير في فساتين وبنطلونات وتايورات للأيام العادية، فيما زين بعضها بالدانتيل لمناسبات الكوكتيل. الخطوط جاءت بسيطة للغاية تتوخى العملية ومنح الدفء أولا وأخيرا لكنها تفتقد إلى عنصر الإبهار.

ما يشد الانتباه في أسبوع إسطنبول في دورته السابعة، أن الأقمشة لا تزال هي البطل المطلق فيه، وجزءا لا يتجزأ من شخصيته. فمنذ إطلاقه، والمصممون شبه مطالبين بدعم هذه الصناعة من باب الإفادة والاستفادة. صحيح أنه ليس هناك أي قيود على إبداعهم، بدليل أن بعض العروض شهدت جنوحا لا مثيل له سوى في أسبوع لندن منذ عشر سنوات ماضية، قبل أن تفيق على حقيقة مهمة وهي أن التسويق يتعارض مع استعراض الخيال المجنون، إلا أن المهم أن يستعرضوا هذا الخيال من خلال أقمشة تصنع محليا وفي معامل تركية. وهذا يشير إلى استراتيجية مدروسة من جهة المؤسسات الحكومية، التي تدعم الأسبوع وتحضر بعض عروضه المسائية خصوصا، ورغبة من قبل المصممين المتخرجين من معاهد التصميم والفنون في إسطنبول للانطلاق إلى العالمية بأي ثمن. ولا شك أن هذه الاستراتيجية لها ما يبررها، بحكم أن تركيا تعتبر ثاني أكبر مصدر للأقمشة في أوروبا ورابع مصدر لها في العالم. بيد أن هذا لم يعد يكفي المنظمة المسؤولة عن هذا القطاع أو يحقق طموحاتها الكبيرة. فقد أعلنت أنها في عام 2011 سجلت ارتفاعا يقدر بـ16.2 مليار دولار أميركي وهو بداية مبشرة ومثلجة للصدر، لكنها لا ترقى إلى ما تحلم به لعام 2013 حيث تأمل، وتعمل، أن تصل إلى 52 مليار دولار أميركي. لتحقيق هذا الهدف، كان لا بد من إطلاق أسبوع خاص بالموضة يحتفل بعاصمتها كما يحتفل بمصمميها وصناعاتها. بدأت العملية بالتعاقد مع المصممين المتخرجين حديثا من معاهدها بمنحهم منبرا يستعرضون فيه إمكاناتهم ومواهبهم. كما جندت مصمميها المخضرمين من أمثال أتيل كوتوغلو وهاكان، الذي لم يشارك هذا الموسم مفضلا العرض في كل من باريس ولندن، وأزرو كابرول وغيرهم، للاستفادة من المنتوج المحلي وصياغته في تصاميم تنافس ما تقدمه العواصم العالمية. وفي كل الحالات، يبقى الهدف من كل هذه العملية هو تقليص استيراد الأقمشة من بلدان آسيوية مثل بنغلاديش أو الهند مثلا.

الجهات المسؤولة في تركيا تعرف جيدا أن الموضة ليست مجرد وسيلة للوصول إلى العالم فحسب، بل هي طريق لإنعاش الاقتصاد وقطع الطريق على منافسين لها في قطاع صناعة الأزياء، خصوصا محلات التجزئة. فعندما يتابع أكثر من 160 ألف شخص، من ضمنهم عدد لا يستهان به من محرري الأزياء من 20 بلدا عالميا، ما لا يقل عن 100 عرض، فإن النتيجة لا تقدر بثمن بالنسبة للمصممين، وبحسب المسؤولين، فهي تقدر بأكثر من 66 مليون دولار أميركي تصب في الاقتصاد التركي.

هذه الرغبة في انتزاع المرتبة الأولى في مجال تصدير الأقمشة والأزياء الجاهزة ليست وليدة الساعة، بل تعود إلى قرون كثيرة حين سرقت تركيا سر دودة الحرير من الصين بحسب المؤرخ البريطاني إدوارد غيبون. وعلى الرغم من مرور عدة قرون تغيرت فيه الكثير من الحضارات والثقافات، فإن المنافسة لإنتاج أجود أنواع الأقمشة تاريخية ومتأصلة لم تتغير. فكما تريد الصين أن تستحوذ على السوق العالمية، فإن تركيا بدورها تريد أن تقضم قطعة من الكعكة، وتطمح أن تكون القطعة كبيرة. سلاحها أن تقدم منتوجا أجود، ولا بأس أن كان جاهزا على شكل أزياء أنيقة عوض أن يبقى مادة خام، حتى تسد الباب على منافسيها. الأمر الذي بدأته منذ فترة برفع الضرائب على الأقمشة والأزياء المستوردة، الأمر الذي أدى إلى انخفاض صادرات الصين وبنغلاديش إلى تركيا في هذا المجال بنحو الثلث في الشطر الأول من العام الحالي ومن الهند بنحو النصف. وقد سجلت صادرات تركيا في الشطر الأول من العام الحالي استقرارا نسبيا في وجه الأزمة العالمية، بنحو 7.7 مليار دولار، فيما يعتبر انخفاضا بسيطا لا يتعدى الـ150 مليون دولار أميركي، مقارنة بعام 2011. والفضل يعود إلى أسواق إسبانيا وبريطانيا وروسيا والعراق التي دخلت على الخط حديثا بعد أن كانت ألمانيا أكبر مستورد بالنسبة لها. أما الفضل الثاني فيعود إلى جغرافيتها، مما يجعل وصول البضاعة إلى هذه الدول أسهل، وبالكميات التي يريدونها من دون أي قيود أو عراقيل. وهكذا، وبعد أن قامت الحكومة بواجبها كاملا لسد الطريق أمام المنافسة وخلق فرص عمل جديدة لأبنائها، فإن الأمر الآن بيد مصمميها ومدى قدراتهم على حمل المنتوج المحلي إلى العالمية وبيعه لهم.