تركيا تلاحق المتاحف لرد آثارها الفنية

في حملة تسببت في إثارة غضب بعض أكبر متاحف العالم

من أمثلة الآثار المنهوبة الموجودة في تركيا تابوت حجري يحمل اسم الإسكندر الأكبر كان قد تم اكتشافه في مدينة صيدا اللبنانية عام 1887 ويوجد الآن في متحف الآثار بالعاصمة التركية اسطنبول
TT

تمكنت حملة شرسة أطلقتها تركيا خلال الأشهر الأخيرة لاسترداد آثار تقول إنها تعرضت للنهب، من إعادة تمثال قديم لأبي الهول والكثير من الكنوز الذهبية التي تنتمي إلى الماضي العريق لهذه المنطقة، إلا أنها تسببت أيضا في إثارة غضب بعض أكبر المتاحف في العالم، التي وصفت هذه الحملة بأنها ابتزاز ثقافي. وفي أحدث هجمة من هذا النوع، قام المسؤولون الأتراك هذا الصيف برفع دعوى جنائية أمام المحاكم التركية للمطالبة بإجراء تحقيق في ما يقولون إنه كشف غير قانوني عن 18 قطعة أثرية معروضة حاليا ضمن مجموعة نوربرت شيميل في «متحف المتروبوليتان للفنون».

ويذكر المسؤولون الأتراك أن المدير العام للأوقاف الثقافية والمتاحف في تركيا، مراد سوسلو، قام العام الماضي بإرسال إنذار إلى المسؤولين في «متحف المتروبوليتان للفنون» مفاده: «أثبتوا مصدر التماثيل الأثرية والأواني الذهبية الموجودة في المجموعة، وإلا فقد تتوقف تركيا عن إعارة الكنوز إليكم». وتقول تركيا إن ذلك التهديد قد دخل بالفعل حيز التنفيذ. وصرح سوسلو - وهو في الأصل عالم آثار - في حوار أجري معه «نحن نعلم بنسبة 100 في المائة أن هذه المعروضات في متحف المتروبوليتان للفنون جاءت من الأناضول (وهي المنطقة التركية المعروفة بأطلالها العتيقة). لا نريد سوى استرداد ما هو حق مستحق لنا».

وهذه المحاولات من جانب تركيا أثارت جدلا دوليا حول من يمتلك الآثار بعد قرون من خروجها من الحدود، حيث تقول متاحف مثل «متحف المتروبوليتان للفنون» و«متحف غيتي» و«متحف اللوفر» و«متحف برغامون» في برلين إن رسالتها بعرض الكنوز الفنية العالمية تقع تحت الحصار بسبب الأساليب التي تتبعها تركيا. ويقول مديرو المتاحف إن الدافع وراء إعادة هذه الآثار هو تغيير الممارسات المتعارف عليها، مثل اتفاقية تابعة لمنظمة اليونيسكو وقعت عليها معظم البلدان تسمح للمتاحف بالحصول على القطع الأثرية التي كانت خارج بلدانها الأصلية قبل عام 1970. ورغم أن تركيا صدقت على هذه الاتفاقية عام 1981، فهي تستشهد الآن بقانون صدر عام 1906 يعود إلى العصر العثماني - كان يمنع تصدير الآثار والتحف - في محاولة للحصول على أي آثار خرجت من تركيا بعد هذا التاريخ.

وتقول تركيا إن السرقة وأعمال السلب والنهب شيء خاطئ وغير مقبول، بغض النظر عن وقت حدوثه. وفي تعليقه على ذلك يقول وزير الثقافة التركي أرطغرل جوناي: «الآثار والتحف الفنية، مثلها مثل الإنسان والحيوان والنبات، لها روح وذكريات تاريخية، وعندما تعود إلى موطنها الأصلي مرة أخرى يعود التوازن إلى الطبيعة».

ولا تعد تركيا هي الدولة الوحيدة التي تطالب بعودة الآثار التي خرجت من حدودها في الماضي، حيث تقدمت مصر واليونان بطلبات مماثلة إلى المتاحف، كما أقنعت إيطاليا «متحف المتروبوليتان للفنون» بأن يعيد إليها وعاء قديما يعرف باسم «يوفرونيوسكراتر» في عام 2006.

لكن الأساليب العدوانية التي تتبعها تركيا، التي تسعى لإثبات وجودها السياسي في منطقة الشرق الأوسط في أعقاب الربيع العربي، كانت بمثابة جرس إنذار للمتاحف، ولذا يرفض المسؤولون هنا إعارة التحف الفنية للمتاحف ويؤخرون إصدار التراخيص الخاصة بالحفريات الأثرية ويهاجمون المتاحف على الملأ. وقال هيرمان بارزينغر، وهو رئيس مؤسسة التراث البروسي الثقافي التي تشرف على متحف برغامون في برلين «يتبع الأتراك سياسات عدوانية ومقززة، ويتعين عليهم أن يتوخوا الحذر عندما يهاجمون الناس من الناحية الأخلاقية في الوقت الذي تمتلئ فيه متاحفهم بالآثار المنهوبة من دول أخرى»، والتي حصل عليها العثمانيون من المناطق التي كانوا يحكمونها في منطقة الشرق الأوسط وجنوب شرق أوروبا، على حد قوله.

ومن أمثلة الآثار المنهوبة الموجودة في تركيا تابوت حجري يحمل اسم الإسكندر الأكبر كان قد تم اكتشافه في مدينة صيدا اللبنانية عام 1887 ويوجد الآن في متحف الآثار بالعاصمة التركية اسطنبول. ويقول سوسلو إن التابوت يعد ملكا لتركا من الناحية القانونية لأنه كان قد تم اكتشافه في أرض تنتمي لتركيا في ذلك الوقت. ومع ذلك، حققت الحملة التركية نجاحا ملحوظا، فخلال العام الماضي وافق متحف برغامون على إعادة تمثال يعود إلى الإمبراطورية الحيثية قبل 3.000 عام، قالت تركيا إنه قد نقل إلى ألمانيا لإعادته لتركيا عام 1917. وقال مسؤولون ألمان إن تركيا قد هددت منع مشروعات أثرية كبرى إذا لم تستعد هذا التمثال.

وحتى بعد إعادة التمثال، رفضت تركيا التعاون مع المتاحف ورفضت إعارة أربع قطع أثرية لأحد المعارض في الوقت الراهن. وأشار سوسلو إلى أنه يتعين على متحف برغامون إعادة بعض التحف الأثرية الأخرى المثار حولها بعض الجدل قبل أن يتم استئناف إعارة التحف للمتحف.

وقال بارزينغر إن تركيا ليس لها الحق من الناحية القانونية لكي تطالب بالحصول على بعض القطع التي تقول إن متحفه يحتفظ بها بصورة غير قانونية، وإن التعامل مع ألمانيا وكأنها لص يهدد التعاون في مجال الآثار على مدار أكثر من قرن من الزمان، كما يضر بالعلاقات بين الدول، لا سيما أن تركيا تحاول الآن الانضمام للاتحاد الأوروبي. وأضاف بارزينغر أن الدول الغربية تأتي في مقدمة الدول التي تعمل على حماية التاريخ العريق لتركيا. وتساءل بارزينغر «لو كان كل الغربيون لصوصا، فمن الذي يقوم بإعادة تراثه الثقافي؟».

وفي انتصار آخر لتركيا، أعلن متحف الآثار والأنثروبولوجيا التابع لجامعة بنسلفانيا الشهر الماضي أنه وافق على إعارة 24 قطعة أثرية إلى تركيا إلى أجل غير مسمى، وتعود هذه القطع الأثرية إلى مدينة طروادة التاريخية التي كانت مصدر إلهام اتفاقية اليونيسكو لعام 1970. وفي المقابل، وعدت تركيا بإعارة بعض القطع الأثرية للمتحف والتعاون مع الجامعة في المستقبل. وقال بعض مديري المتاحف إنهم يخشون من أن تؤدي الخطوة التي أقدم عليها المتحف التابع لجامعة بنسلفانيا، والذي كان قد حصل على هذه القطع الأثرية عام 1966، إلى مزيد من المطالبات في المستقبل.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) 2011، أعاد متحف الفنون الجميلة في بوسطن، النصف العلوي من تمثال «هرقل المنهك» الذي يعود إلى نحو 1800 سنة، وقام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان باصطحابه على متن طائرة حكومته وهو يشعر بالفخر والانتصار.

وللضغط على متحف المتروبوليتان للفنون، رفض المسؤولون الأتراك إعارة هذا التمثيل للمتحف لعرضه في المعرض الذي أقامه خلال العام الحالي بعنوان «بيزنطة والإسلام: عصر التحول».

ومن جهته، نفى المتحف أن يكون قد طلب من تركيا استعارة أي قطع أثرية، وقال مدير المتحف توماس كامبل، في مقابلة شخصية معه، إن المتحف يعتقد أن القطع التي تسعى تركيا لاستعادتها كان قد تم الحصول عليها بصورة قانونية من قبل نوربرت شيميل في سوق الآثار الأوروبية خلال فترة الستينات من القرن الماضي قبل التبرع بها للمتحف عام 1989، وتم ذلك وفقا لاتفاق منظمة اليونيسكو. واعترف كامبل بأن معظم هذه القطع الأثرية ليس لها تاريخ ملكية موثقة، لكنه أشار أيضا إلى أنه لا يوجد أي دليل على وجود قطع أثرية بصورة غير مشروعة. وقال مسؤولون أتراك إنهم لم يكشفوا حتى الآن عن الأدلة التي تثبت أنه قد تم تهريب هذه القطع الأثرية بشكل غير قانوني.

ويقول كامبل «إذا ظهر دليل يؤكد أن هذه القطع الأثرية قد جرى التنقيب عنها بصورة غير قانونية أو تم نهبها، فسوف نعالج هذا الأمر على أساس كل حالة على حدة».

ويؤكد كامبل على أن الرأي القائل بأن مثل هذه القطع الأثرية ينبغي دوما إعادتها إلى بلدان المنشأ هو رأي محل شك كبير، نظرا لأن العديد من هذه القطع قد سافرت خارج بلدانها عبر العصور. ويضيف كامبل «نحن نقوم بالفعل بالاحتفال بالثقافة التركية، حيث إن عرض مثل هذه القطع الأثرية في المعارض الكبيرة في باريس ولندن ونيويورك هو ما سوف يشجع الناس على الذهاب إلى تركيا لاكتشاف تراثها الثقافي، أكثر بكثير من الشمس الساطعة والشواطئ الجميلة التي تتمتع بها البلاد».

يقول مارك ماسوروفسكي، وهو خبير في القطع الفنية المسروقة في «متحف ذكرى الهولوكوست» في واشنطن، إنه ليس من المستغرب أن يلجأ الأتراك لهذه الدبلوماسية الصلبة في ظل عدم وجود وكالة دولية لإنفاذ تدابير مكافحة التهريب. لكنه أشار إلى أن تركيا تواجه الكثير من الصعوبات في محاولة تطبيق القانون العثماني خارج أراضيها. وحتى إذا ما تم قبول تنفيذ مثل هذه القوانين، فإن تأريخ الحفريات غير المشروعة التي تم استخراجها من أي موقع أثري هو أمر صعب للغاية، نظرا لعدم الاحتفاظ بأي سجلات في هذا الصدد.

لكن سوسلو يؤكد أنه لا يوجد أي شيء على الإطلاق يمكن أن يبرر السرقة، مشيرا إلى استحواذ متحف اللوفر على بعض قطع الخزف الإزنيقي التي يعود تاريخها للقرن الـ16 والتي تمت سرقتها من قبل المرمم الفرنسي ألبرت سورلين دورنغني في ثمانينات القرن التاسع عشر. ويؤكد سوسلو أن هذه القطع، التي تم الاستيلاء عليها من ضريح السلطان سليم الثاني في إسطنبول، جرى نقلها إلى باريس كي يتم ترميمها، ولكن دورنغني أعطاها لمتحف اللوفر في عام 1895 بدلا من إعادتها.

ومن الجدير بالذكر أن متحف اللوفر لم يقم بالرد على الرسائل التي طلبت منه التعليق على هذا الأمر. ويقول المسؤولون الأتراك إن الفرنسيين يصرون على أن أحد أفراد العائلة المالكة في تركيا هو من أعطى دورنغني هذه القطع الخزفية، لكنهم لم يقدموا أي وثائق لإثبات هذا الأمر.

وتساءل سوسلو «من هو هذا الشخص العاقل الذي يقوم بإهداء قطعة من ضريح أحد أقاربه لدولة أجنبية؟ إذا أتيت إلى منزلي وقمت بسرقة بعض الأشياء الثمينة مني، أفلا يحق لي استرجاع هذه الأشياء؟».

* خدمة «نيويورك تايمز»