«ألزهايمر الرقمي» يثير جدلا في ألمانيا

كتاب علمي يدين «العته» الناجم عن إدمان العالم الافتراضي

TT

في مقدمة كتابه المثير للجدل «العته الرقمي»، يقول عالم الأمراض العقلية والنفسية، والباحث في وظائف الدماغ، البروفسور مانفريد شبيتزر «أعرف أن هذا الكتاب سيثير غضب الكثيرين، لأن الكثيرين يعانون من أعراض ما أتحدث عنه». ويضيف أنه عالم في وظائف الدماغ، وحينما يقول لأحد المرضى إنه مصاب بورم في الدماغ، فإنه لا يفعل ذلك إلا بعد أن يتأكد من التشخيص، وبعد أن يواجه المريض بكل نتائج الفحوصات.

وهو ما يفعله، أو ربما ما يحاول أن يقوله، في هذا الكتاب الذي أثار الكثير من الجدل في ألمانيا، وأثار حفيظة علماء آخرين في المعلوماتية والأعصاب. إذ يستند الكاتب إلى عشرات الدراسات، وإلى عشرات الصور الدماغية الشعاعية، وإلى الكثير من الحقائق، لإثبات أن البشرية لا تتعامل «بعقل» مع الثورة التقنية المعلوماتية، وأن استخدام «غوغل» و«تويتر» منذ نعومة الأظفار لا يؤدي، بالنتيجة، سوى إلى إصابة إنسان المستقبل بالعته الرقمي، وبـ«ألزهايمر رقمي» سببه عدم تمرين الدماغ بما يكفي، والاعتماد على التقنية الحديثة في حل أبسط المشاكل، بدءا بجدول الضرب في الرياضيات وانتهاء بالبحث عن مفهوم «ألزهايمر الرقمي» في غوغل. وتنطبق هذه الحال بالضبط على الأطفال قبل غيرهم، وهو ما قد يهدد أجيال المستقبل بالعته المبكر.

ويورد شبيتزر المثال عن «غوغل» في ثنايا كتابه، فيقول إنه تلقى أكثر من 3800 مادة معلوماتية محتملة على صفحات هذا الموقع الشهير حينما سأل عن مفهوم «ألزهايمر الرقمي»، لكنه تلقى ردودا أكثر حينما طرح اسم «الزرافة الخضراء». علما بأن المصطلحين جديدان تماما على عالم المعرفة، واستخدم الأول شبيتزر نفسه، ولا ندري إن كان شخص آخر قد استخدم التعبير الثاني (الزرافة الخضراء) أم لا. وكانت هذه النتائج دليلا للعالم النفسي على مدى «السطحية» التي قد توقعنا فيها «عبادة الإنترنت».

ويتعامل شبيتزر مع «العته الرقمي» كحالة مرضية جديدة في قاموس أمراض الإنترنت، فيتحدث عن مخاطر المرض، وأسبابه، وأعراضه، ومن ثم طرق الوقاية منه، وأخيرا العلاج. ويقول إن كل ما نعانيه اليوم من أمراض جديدة، نطلق عليها اسم أمراض الإنترنت، مثل الخدر في اليد اليسرى، و«العين المكتبية»، و«الإدمان» على الإنترنت، والانفصال عن الواقع والعيش في الواقع الافتراضي، كلها أعراض لمرض واحد يتسلل إلينا ببطء ويهدد بإصابتنا بمرض «العته الطفولي».

ويعطي الكاتب في نهاية الكتاب النصائح الكفيلة بوقف تقدم وباء «العته الرقمي» على المستوى العالمي، ويركز على ضرورة حماية الأطفال من الإدمان المبكر على الكومبيوتر والإنترنت والألعاب الرقمية.. إلخ. ويقول إنه بدأ منذ سنوات في تقنين ساعات مشاهدة التلفزيون والكومبيوتر لأطفاله، لأنه أب أيضا ويود وقاية أبنائه من «ألزهايمر رقمي» مبكر قد يصيبهم.

* حقائق رقمية

* يورد الكاتب، في معرض شرحه لأسباب المرض، نتائج دراسة ألمانية عن مستخدمي الميديا الرقمية شملت 250 ألفا من الشباب من عمر 14 إلى 24 سنة. وتتحدث هذه الدراسة عن 1.4 مليون شاب مدمن أو معرض للإصابة بالإدمان على الإنترنت، يستخدمونها أكثر من 7 ساعات يوميا. وهي حقائق أوردتها ميشتلد ديكمان، مفوضة شؤون الإدمان في البرلمان الألماني في تقريريها أمام البرلمان يوم 2012/5/22. وذكرت ديكان حينها أن عدد مدمني ألعاب الكومبيوتر يزداد في حين تنخفض أعداد مدمني المخدرات والكحول لأول مرة.

المرعب في الأرقام حول الإدمان الرقمي هو أن الشباب في الولايات المتحدة صاروا يستخدمون الأجهزة الرقمية عموما لمعدل وقت يبلغ 7.5 ساعة يوميا، في حين أن معدل نومهم لا يزيد على 7 ساعات يوميا. والنتائج معروفة، لأن ذلك ينعكس سلبا على القدرات التعليمية، وعلى الذاكرة، وعلى نشاط الدماغ ككل.

في ألمانيا، يستخدم تلاميذ المدارس من الصف التاسع (معدل 15 سنة) الإنترنت والألعاب.. إلخ.. لـ7.5 ساعة كمعدل أيضا، وهكذا صاروا يسابقون نظراءهم الأميركان لأول مرة. وجاءت هذه النتيجة بعد استطلاع رأي شمل 43.500 تلميذ ألماني، علما بأنها لم تشمل استخدام الجوال والـ«آي فون» و«إم بي ثري». المثير للقلق هنا هو أن معدل ساعات الدراسة الأسبوعي في ألمانيا لا يزيد على 4 ساعات يوميا.

لا يدعو الكاتب هنا إلى قطع الطفل عن عالم يفرض نفسه بقوة باتجاه المستقبل، لكنه يدعو إلى تقليل ساعات لعب الطفل على الميديا الرقمية. ويقول إن كل يوم لا يلعب فيه الطفل على ألعاب الكومبيوتر، هو يوم وظائفي مكسوب للدماغ، وتمرين لخلايا الطفل الدماغية بالضد من العته الرقمي. ويضيف «لا أتحدث هنا عن قضية ذائقة تتعلق بهذه اللوحة الفنية، أو بهذا العرض المسرحي، لأن ذلك يخضع لذائقة المشاهد، لكنني أتحدث عن حالة علمية مفادها أن (الإعلام الرقمي)، والألعاب الرقمية، يؤثران سلبا على تطور دماغ الطفل».

* المرض يتسلل إلى الصحافة الجادة

* يخصص الكاتب فصلا في الكتاب للحديث عن أمراض الصحافة الإلكترونية التي تورمت في بعبع عظيم صار يطغى على الصحافة التقليدية النوعية. ويضيف أن الكثيرين سيستهجنون رأيه، وسيقولون إنه «يحارب الطواحين»، لكنه يعتقد أن أمراض الصحافة الإلكترونية تسللت منذ فترة طويلة إلى جسد الصحافة الجادة.

وأعراض هذا الوباء الذي انتقل إلى الصحافة الجادة هي الحمى، التورم، الدوران، الهذيان، الضعف.. إلخ. وهي أعراض تعبر عن عدم الدقة، والإسهاب، والضعف اللغوي، وعدم الاحتكام إلى المعطيات والحقائق، أي كل ما يمثل عالم صحافة الإنترنت الذي صار مسرحا لكل من واتته خاطرة أو فكرة ما.

«ما يستعصي على الآخرين فهمه هو أن الصحافة الألمانية النوعية، التي صارت تعاني كثيرا من أمراض الإنترنت، انخفضت إلى مستوى الإنترنت منذ فترة طويلة». فصحافة اليوم الجادة صارت تكتب أحيانا «بلا رقيب»، وبنفس لا يتناسب مع صحافة الثمانيات، حسب رأيه.

«أعتقد أن البشرية بلغت من التطور مبلغا لم يسبق له مثيل حتى الآن، لكننا أصبحنا مهددين بالفناء أيضا، إذا لم نستفد من أخطائنا، وإذا أصررنا على ممارسة الأخطاء نفسها. في السابق، كان يكفي للإنسان أن يتجه غربا لكي يبدأ بداية جديدة؛ كان هذا قبل 100 سنة، ولا تتوافر اليوم فرصة مماثلة، وعلى الإنسان أن يتقدم دائما إلى الأمام، لكن من دون أن يرتكب الأخطاء».

* التاكسي اللندني

* وفي معرض دفاعه عن نظرية التمرين الدماغي، بالضد من الاعتماد على الأجهزة الرقمية، يورد شبيتزر مثلا عن دراسة أجريت في لندن على سائقي سيارات الأجرة. ويتخذ هنا من آخر صيحات تقنية المعلومات، أي الملاح الإلكتروني العامل في السيارات مع نظام تحديد المواقع، عبر الأقمار الصناعية، مثلا على ضعف تطور الدماغ. إذ أجرى علماء الجملة العصبية البريطانيون تجربة مع 79 سائق سيارة أجرة (تاكسي) لندنية، كلهم من الذكور، بهدف معرفة تأثير الملاح الإلكتروني على معارفهم الشخصية بأحياء وشوارع العاصمة البريطانية. وقاس العلماء كمية الخلايا السنجابية في «قرن آمون» (Hippocampus) في أدمغة سائقي سيارات الأجرة قبل بدء امتحان نيل إجازة قيادة التاكسي، ثم قاسوها مرة ثانية بعد 4 سنوات من نيل الإجازة. ووجد العلماء أن كمية الخلايا السنجابية قد ازدادت بوضوح في أدمغة المتطوعين من سائقي سيارات الأجرة. واعتبروا هذا دليلا على أن تمرين الدماغ، من خلال حفظ أسماء الأحياء، وحفظ أسماء الشوارع ومواقعها، طور أدمغة هؤلاء المتطوعين. في حين أن كمية الخلايا السنجابية في أدمغة سائقي سيارات الأجرة، الذي يستخدمون الملاح الإلكتروني، قد تضاءلت. ويتساءل شبيتزر، اعتمادا على هذه الدراسة: ماذا سيحصل حينما يفشل الملاح الإلكتروني في سيارة الأجرة؟ وأما كان من الأفضل لو يحفظ سائقو سيارات الأجرة أسماء الشوارع في البداية، ثم يزودون بعد ذلك بالملاح، كاحتياط؟

على أي حال، وكما توقع شبيتزر نفسه، فقد هوجم الكتاب في بعض الصحف الألمانية قدر ما امتدح في صحف أخرى. ولا شك أنه مس عصبا حساسا حينما تحدث عن انخفاض مستوى الصحافة الألمانية «النوعية» إلى مستوى الإنترنت.

صحيفة كبيرة مثل «زود دويتشه تسايتونغ» هاجمت الكتاب ووصفته بأنه كتاب يبرز كل ما هو سلبي في الدراسات العلمية حول تأثير الإنترنت على حياة البشر، ويتجاهل كل ما أضافته الثورة التقنية المعلوماتية إلى البشرية. ووصفت الجريدة الطبيب المؤلف بأنه «مبشر» يحذر من طوفان المعلوماتية في العالم، وقالت إن ما كتبه «مثل الذي يدعوك إلى عشاء دسم، ثم يقول لك، قبل بدء الأكل، إن الطعام الدسم مساء ضار بالصحة».

صحيفة «فرانكفورتر الجماينه» المعروفة اتهمت البروفسور مانفريد شبيتزر بالـ«شعبوية»، وقالت إنها طرحت اسم مانفريد شبيتزر على «غوغل» قبل نشر كتابه «العته الرقمي» فنالت 8000 مادة معلوماتية عنه، ثم أدخلت اسمه ثانية، بعد نشر الكتاب، فتلقت مليون مادة.