مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي 4: ثلاثة أفلام تسجيلية بثلاثة أبعاد

«أبوظبي» يرسم صورة لعالم يزداد اضطرابا

إحدى لقطات فيلم «حكايات نسردها»
TT

* لا مجال للفرار. لا يوجد مكان للجوء. عاجلا أم آجلا سيسألك المخرج الموهوب عن رأيك في فيلمه الجديد. وسيبتسم وابتسامته من الأذن إلى الأذن. عريضة جدا. وعيناه واسعتان دلالة الرغبة في المعرفة.

لا مجال للهرب. عليك، كناقد، أن تقول رأيك ولا ينفع أن تقوله بكلمة واحدة، أو بأقل. المخرج يظهر أنه يريد رأيك لأنه يعتز به ولأنه منفتح على الآراء. شديد القبول بالنقد.. وها هو يسألك وينتظر.

ما أن تقول رأيك. بكل ما لديك من لطف وكياسة وإدراك بأن كلامك لا ينزل بردا ولا سلاما حتى يتراجع رأسه عن مكانه. تضيق عيناه وتفتر الابتسامة. تلحظ كل ذلك وتريد أن تقول له: «آسف. كان علي أن أذكر رأيي وقد أكون مخطئا»، لكنه لا يمهلك ويترك شبحه معك أما باله وجسده فيصبحان في مكان آخر.

* المسألة محرجة، والناقد لا يريد أن يذكر مساوئ بعض الأفلام التي يراها لأنه لا يبحث عن الحسنات، بل لأن الحسنات والسيئات تتوازى في نظره وإذا ما أراد أن ينتقد عملا فعليه أن يذكر كل شيء في معرض حديثه. وفي حين أن ذكر الحسنات يحظى بترحاب شديد، فإن ذكر السلبيات يحدث ذلك الاهتزاز في الداخل. هل ولد الفيلم كاملا متكاملا بلا هفوات أو أخطاء؟ لا يمكن. ليس في قدرات معظم مخرجينا المادية أو الفنية أو سواها. لم إذن يحاول كل منا الاختباء وراء أصبعه الأنحف؟

* ثم لا بد من القول إن بعض المخرجين لا يرحمون النقاد وهم ثابروا على تحقيق أفلام غير واعدة، كذلك المخرج المعروف بعدد من الأفلام القصيرة الذي جاء إلى هذا الناقد في غير هذا المهرجان وسأله: «بودي تحقيق فيلم روائي طويل.. ماذا أفعل؟». خرجت مني كلماتي فالتة ومن دون عقال إذ قلت: «بسيطة. اجمع أفلامك القصيرة مع بعضها البعض يصبح لديك فيلما طويلا».

مسابقة الأفلام التسجيلية عرضت، بين ما عرضت، ثلاثة أفلام متميزة بأساليب متباينة وبمواضيع تختلف تماما فيما بينها وذلك طبيعي ومألوف. لكن اثنين من هذه الأفلام لهما علاقة بما يدور في عالمنا. أفضلهما هو الفيلم الأميركي «أميركان إمباير» لباتريا باتريك: فيلم ينطلق من معاينة الواقع الاقتصادي الذي تعيشه الولايات المتحدة اليوم ليفسر ماهية هذه الإمبراطورية العالمية التي يتحدث عنها وفيها.

«أميركان إمباير» ليس عن الإمبراطورية العسكرية أو السياسية، ولو أن طرفا من هذا وذاك عالق في ثوب الموضوع، إنه عن وضع القرارات المعيشية جميع في قبضة حفنة من المؤسسات الضخمة (معظمها أميركي) والاتجار بها على نحو تحصد فيه تلك الحفنة كل ما يمكن حصده داخل أميركا وحول العالم من خيرات وثمار وأموال.

خمس سنوات هي المدة التي اشتغل فيها المخرج على موضوعه جامعا المعلومات ومصورا المقابلات وباحثا ومحققا. هذا قبل أن يوضب فيلما من نحو 100 دقيقة قسمه إلى فصول كل منها ينطلق من الآخر ثم يعود فينضم إليه. ذلك أن القبضة الاقتصادية التي تمثلها تلك المؤسسات الكبرى تشمل ما هو حيوي بالنسبة للحياة العامة، فهي تسيطر على الاقتصاد وللاقتصاد مشتقات كثيرة كلها تتبع هذه السيطرة، وعلى الدواء والغذاء والماء والزراعة والتجارة. تلك الشاحنات المقبلة من الأرجنتين وتشيلي فوق طرق تمتد لمئات ألوف الكيلومترات لكي تصل بشاحناتها إلى المستودعات لكي تطرح حمولاتها من خضار وفاكهة في الأسواق لا تفعل ذلك لأن الإنتاج المحلي لا يكفي، بل لأن هناك مال أكثر يجنى عن طريق هذا الاستثمار بعد شرائه بأبخس الأسعار تستفيد منه صناعات عدة بما فيها الشركات الشاحنة التي ينتمي بعضها إلى المؤسسات المستحوذة على تجارة الطعام وجميعها إلى هيكلية ذلك العمل.

الزراعة في الولايات المتحدة لا تعاني إلا من تغليب المصلحة الفردية (لتلك المؤسسات) على المصلحة الجماعية للمزارع وللمجتمع ومن دون رجفة عين يتم خفض القدرات الزراعية المحلية. الحال نفسه بالنسبة لباقي الضروريات الغذائية من لحوم. الوجبات التي يتناولها سبعون في المائة من البشر لم تعد مزجا بين المادة الطبيعية وما دخلها من كيماويات أو هرمونات، بل هي مكونات جينية ليست طبيعية بل تم صنعها في المختبرات بما فيها حبوب الذرة والقمح. المزارعون الذين لا يرضون بزرع أراضيهم بها كما رأينا في الفيلم الروائي «بأي ثمن» يرتكبون مخالفة قانونية. الدولة الأفريقية الجائعة التي قد تحتج على تمويلها بأرز أو قمح من بذور الحياة ذاتها، يتم تهديدها. وحسب الفيلم: «تأخذين ما نعرضه أو تموتين جوعا».

هناك تجارات لم تدخل بعد نطاق الاستحواذ الكامل من بينها الفيتامينات والمعادن، لكن هذه في طريق التقويض. حسب الفيلم أيضا: «ما تشتريه كما ترغب من المحلات سيعامل - إذا ما خرج قانون بذلك كما تسعى بعض المؤسسات - معاملة الدواء. قبل أن تحصل على فيتامين سي، ستذهب إلى الطبيب الذي سيكتب لك وصفة (إذا لم يصر على تحاليل خاصة ترفع من سعر الفاتورة) تذهب بها إلى الصيدلي»، بكلمات أخرى ما بين أجر الطبيب ووصفة الصيدلي ورفع سعر العلبة ستجد نفسك تدفع ما لا يقل عن ثمانين دولارا للحصول على ما كنت تحصل عليه بعشرة دولارات.

إنها صورة قاتمة بل ومخيفة والفيلم تفصيلي. إنه ليس خيالا علميا بل واقعا علميا إذا صح التعبير. لكنه فوق كل ما يذهب إليه من جهات واتجاهات فإنه مبني على أسلوب رصين. فيلم تسجيلي بالسمة التقليدية وجاد بلا مزاح لأن ما يعرضه لا يمكن معه تخفيف وقعه. يقوم على المقابلات مع شخصيات علمية واقتصادية وسياسية كلـها تكرر تحذيرا واحدا من أن حياتنا أصبحت في قبضة حفنة من المؤسسات التي آخر ما تكترث له هو كيف نحيا؟

بقدر ما أن هذا الموضوع شامل، وبل كوني، بقدر ما تتخصص المخرجة السورية هالة العبدالله، المقيمة في باريس، بمشكلة وطنها المنتحر. في «كما لو أننا نمسك بكوبرا» تنطلق من الحديث عن فن الكاريكاتير ودوره السياسي في هذه المرحلة على الأخص. تعرض لإنجازات الفنان علي فرزات وما أصابه من أذى بسبب رسوماته التي لم تلق الترحاب لدى النظام السوري فتعرض للاعتداء والضرب وكسر الأصابع. المقابلة التي أجرتها المخرجة معه والتي تمت على الأرجح قبل الثورة كون المخرجة الآن لا تستطيع العودة لوطنها، هي أكثر مناطق الفيلم مرحا بسبب شخصية الفنان المذكور، لكن ما تبقى يمر مثل دبابة ثقيلة وبطيئة ولسبب جهوري: الفيلم في أصله كان عن رسامي الكاريكاتير المصريين، وذلك قبل اندلاع الغضب السوري، وكان محددا في إطاره وموضوعه، لكن إذ فكرت المخرجة في توسيع رقعة ما تتناوله لكي تستطيع الحديث عن الشأن السوري، تعرضت الفكرة لحالة استرخاء دامغة. على الرغم من ذلك، كان يمكن إنجاز هذا الفيلم في ساعة واحدة كحد أقصى عوض ساعتين مسهبتين لا يتوقف الحديث عن موضوع واحد حتى يتم إعادة ما تم الحديث فيه بكلمات أخرى.

هذا مؤسف؛ لأن الموضوع يستحق فيلما ولأن النية وراء استعراض العلاقة بين الحاكم والفن الكاريكاتيري بحد ذاتها جيدة. لكن الجمع توليفيا (كمادة وكمونتاج) لم ينجح. والأسلوب الأدبي الذي تتكاثف فيه الكلمات شعرا ونثرا يبقى صوتا ولا يتحول إلى سينما. في الوقت ذاته فإن قرار المخرجة تغييب الأسماء عن الشخصيات الماثلة أمامها في حواراتها مسيء للفيلم على نحو شديد. اثنان من نحو عشر شخصيات تتم محاورتهما معروفتان (ولو للبعض) هما علي فرزات والكاريكاتيرست الراحل مصطفى لباد. الباقون يظهرون بلا أسماء وعليك أن تنتظر حتى نهاية الفيلم لتقرأ الأسماء فتطالعك مشكلة أخرى: من كان صاحب هذا الاسم من بين الصور؟

إذا كان «أميركان إمباير» يطرح مشكلة عالمية و«كما لو أننا نمسك بكوبرا» يطرح مشكلة تخص جزءا من هذا العالم، فإن الفيلم التسجيلي اللافت الثالث هو خطوة للذاتي. الممثلة والمخرجة سالي بولي معروفة بحسن أدائها (في نحو 56 فيلما وحلقة تلفزيونية وظهور تمثيلي آخر) وحسن إخراجها (تسعة أعمال في الروائي والتسجيلي) على حد سواء. في عام 2006 أنجزت عملا رقيقا وجيدا عن الرجل الذي لم يكن ليستطيع فعل أي شيء حيال غزو مرض الزهايمر لزوجته التي يحب. سريعا ما يقع ما كان يدرك أنه سيقع: ستنساه.

فيلمها الجديد المعروض في هذا المهرجان «حكايات نسردها» هو تسجيلي يتحدث عنها وعن عائلتها. طريقتها في العمل مثيرة للاهتمام: ها هي جالسة في الاستوديو لتسجل ما لدى والدها قوله عن تاريخ العائلة. كيف التقى بأمها الراحلة وكيف اكتشف لاحقا، كما اكتشفت هي قبله، أنها ليست ابنته في الواقع.

ما قبل الاكتشاف كانت الصورة هكذا: والد سارا ووالدتها ممثلان (بالإضافة إلى كونه كاتبا) تعرفا على بعضهما البعض ووقعا في الحب. هو منطو ويحب الحياة البيتية، وهي منطلقة تحب الضحك والأصدقاء، لكنها تطبعت إلى حد كبير والاثنان تزوجا وعاشا حياة سعيدة. وسارا وأشقاؤها (كلهم تضعهم المخرجة أمام الكاميرا للإدلاء بدلوهم في هذا الحديث مع أسماء لجانب صورهم طبعا) هم ثمار هذا الزواج. هذا على الرغم من أن شكا حام حول البعض كون شعر سارا أحمر يشبه شعر ذلك الممثل الذي تعرفت عليه خلال قيامها بمسرحية في مونتريال بعيدا عن بيت الزوجية في تورنتو. لكن إذ يعزز الفيلم هذا الاحتمال، يتراجع عنه حينما تجلس المخرجة لتقابل المنتج هاري غولكين الذي يصارحها بعلاقته مع والدتها. علاقة استمرت ساخنة لسنوات طويلة. في النهاية يوافق هاري على إجراء تجربة DNA فإذا بالنتيجة صاعقة: هي بالفعل ابنة ذلك المنتج. والخبر كان لا بد من إيصاله إلى «أبيها» والدراما تتألـف من التسجيلي وهذا هو إنجاز الفيلم الأكثر ظهورا.

بعيدا عن التسجيلي ومشاغله، فإن السينما الروائية في حالة ثراء كما تتبدى معالمها على شاشات هذا المهرجان. هناك الكثير من الأفلام التي لا بد من الحديث فيها. الكثير من الطروحات الفنية (تلك الدرامية تحصيل حاصل) التي تزيد التجارب غنى. والواضح أنه في حين أن الفيلم التسجيلي محكوم بعدد محدود من الأساليب، في نهاية المطاف، فإن الفيلم الروائي يتيح لنفسه - بحكم طبيعته - بعدد غير محدد من الطرق والمعالجات والأساليب.