مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي 4: «أبوظبي» يعرض لأميركا اليوم وهزيمة الأمس

معا في المحنة: لقطة من «المواطن»
TT

مباشرة، بعد عرض فيلم نوري بوزيد الجديد «مانموتش»، قام أحد الحاضرين القادمين من مصر العزيزة وسأل المخرج التونسي: «لماذا لم تجعل ممثلي الفيلم يتكلمون المصرية لكي نفهم؟». كان سؤالا صادما، يقول لي بوزيد، ويضيف: «كان السؤال الوحيد الذي لا يمكن القبول به وكان جوابي حادا جدا. لقد أثارني». المشكلة هي أن البعض يعتبر أن الإنجاز الفني أو الثقافي أو الأدبي (سواء أكان فيلما أو مسرحية أو كتابا إلخ…) عليه أن يأتي إليه. عليه أن يسعى صوبه وليس العكس. إنه، في مثل هذه الحالة، مصعد كهربائي تطلبه فيأتي. بينما الحقيقة هي العكس: ما دمت أمام عمل لمبدع فإن ما أنت بحاجة لأن تفعله هو السعي إليه، لفهمه على ما هو وليس على ما أنت عليه. طبعا، قد تطرق الباب ولا تسمع الجواب، بمعنى أن الفيلم قد لا يتحدث إليك، قد يكون لمن سواك، لكن هذه مشكلة أخرى.

على ذلك، فإن اعتبار البعض أن على الأفلام العربية أن تتحدث باللهجة المصرية لكي تُفهَم، اعتبار غريب فعلا، لأننا بذلك نريد أن نمحو الهوية الوطنية والاجتماعية والثقافية، من دون أن نحصد شيئا في المقابل، ولأن المطلوب هو جهد المتلقـي وبذله في سبيل تقدير الآخر وقبوله. وهذا ما يذكر ببضع مسائل مرتبطة، سبق لمؤتمرات ومهرجانات أن تعرضت لها، فقبل عدة سنوات وخلال مؤتمر أقيم لمناقشة أوضاع السينما العربية (التي لم تتغير كثيرا من حينها)، قامت سيدة مصرية للحديث وتساءلت بكل ثقة: «ولماذا كل هذا التعب؟ السينما المصرية هي السينما الوحيدة في العالم العربي التي لديها صناعة وفنانون، وهي تفتح أبوابها للجميع». طبعا، الرد كان قاسيا، (ربما أقسى من رد المخرج التونسي)، ومستنكرا الإيحاء بأنه لا لزوم لسينما أخرى في المنطقة؛ فسينما واحدة (ولا يهم إذا كانت لبنانية أو تونسية أو مصرية أو مغربية) كافية.

السجال دائر حول ما إذا كان من الأفضل إنتاج وتمويل أفلام أميركية تتحدث عن «قضايانا» أو أن نحسم المسألة بإنتاج أفلام عربية تتوجه للعالمية. سؤال باهت المعاني في كل الحالات، يعتبر أن هناك، بصرف النظر عن تفضيل هذا الجانب أو ذاك، بابا واحدا علينا طرقه، وهذا سيؤدي وحده لتعزيز ما هو عربي عالميا.

«المواطن» لسامر قاضي، استجاب للجانب الأول وهذا طبيعي، في الوقت الذي تستجيب أفلام عربية كثيرة أخرى إلى الجانب الثاني، وهو أيضا أمر طبيعي. مثل فيلم ميرا نير، الذي افتتح «فينيسيا» وسيفتتح «الدوحة الشهر المقبل، وعنوانه «الإرهابي المتردد». يتناول «المواطن» مسألة لها علاقة بالحلم الأميركي وموقف اللاجئ إلى ذلك الحلم منه وما يحدث له بسببه. هنا، لدينا إبراهيم، (خالد النبوي)، اللبناني الذي خسر عائلته خلال الحرب الأهلية هناك، والذي يحط في العاشر من سبتمبر (أيلول) في مطار نيويورك بعدما فاز بالمواطنية الأميركية عن طريق «اليانصيب». في المطار، يجلس أمام ضابط الحدود الذي يسأله بضع أسئلة. يكذب إبراهيم بشأن واحد منها مضطرا دون أن يعلم أن هذه الكذبة ستكلـفه الكثير. حين يصل إلى الفندق، يلتقي دايان، (أغنيس بروكنر)، التي تلجأ إلى غرفته هربا من صديق عنيف. تنشأ بينهما صداقة، لكنه في اليوم التالي، وفي أعقاب الهجوم على «وورلد ترايد سنتر»، يجد نفسه في السجن بشبهة الاشتراك في ذلك الهجوم. بعد ستـة أشهر، يخرج من الاعتقال ويتصل بدايان التي تستقبله في شقتها. يبحث عن عمل ويجده في متجر، صاحبه هندي (رضوان مانجي).

في شخصية إبراهيم ذلك الشعور بأن عليه مساعدة كل من يراه بحاجة إلى مساعدة. أحد هؤلاء محتال أسود بلا مأوى، الذي يخدعه ويسرق شقـة ديان. في مرة ثانية، هناك الحادثة التي ينبري فيها لإنقاذ حياة شاب أبيض اعتدى عليه رجلان أو ثلاثة. الحادثة جعلته بطلا محليا، لكن هذا لا يفيده كثيرا حين يصله إشعار بوجوب المثول أمام المحكمة للنظر في طلبه الهوية الأميركية. هذا ما يؤدي بنا إلى فصل محاكمة، حيث يترافع ضده مدع عام (ويليام أثرتون)، ويدافع عنه المحامي ميلر (كاري إلويس)… واحذروا من يفوز؟

إنه فيلم بعناصر إنتاجية متكاملة. سامر، (واسمه على الشاشة سام)، يعرف كل ما يلزم تأمينه من عناصر تنفيذ فيلم أميركي: التوقيت الصحيح، الإيقاع المنتقل بسهولة، المشاهد التي تطرق مواضيعها ولو بخفة، والموسيقى التي تعزف في الخلفية للإسهام في توليفة الفيلم العامـة وللمساعدة في نشر الشعور المطلوب (حزن، فرح إلخ...). هذه السمات هي تلك الجماهيرية المعتادة التي يريد المخرج من خلالها طرح موضوع حقيقي (وإن لم يكن ذا أحداث واقعية)، مفاده أن اللاجئين إلى أميركا إنما يفعلون ذلك لأن أميركا أرض الأحلام المحقـة، وأن من يريد النيل منها، بصرف النظر عن ألوانهم وأجناسهم وهوياتهم، لا يعبرون عن الغالبية حتى ولو شاركتهم اللون والجنسية والهويـة.

هذا جيد بلا ريب. لكن الفيلم يقع في فخ حاكه السيناريو لنفسه، فالفيلم إذ يقصد أن ينال من وضع، يقسَّم المواطنون فيه إلى عناصر بشرية تنتمي إلى النوع والهوية الأولى وغير ذلك من تبعات التقسيم، يصل إلى نهاية تريد ترميم كل ذلك بنهاية سعيدة. إذن، من ناحية، لدى الفيلم ما ينتقده، ومن ناحية أخرى يحمل ممحاة يمسح عن اللوح في نهايته ما قام بنقده، من دون أن يكون متجنيـا في الحالة الأولى أو بعيدا عن الحقيقة في الحالة الثانية، مما يعني أنه كان على الفيلم، كتابة وإخراجا، أن يعمد إلى طريق وسط من البداية بحيث يجنب نفسه سذاجة النهايات السعيدة.

إلى ذلك، فإن الأميركي، والفيلم موجـه إليه أولا، يريد أن يرى، ولو من باب الاعتزاز بالنفس، وخصوصا في فيلم ما زال يلجأ إلى الصياغة الجماهيرية، أن هذا القادم لديه نقطة رمادية ما في شخصيته، عوض أن يكون من نتاج مسحوق غسيل شديد البياض. أهمية هذه النقطة هي أنها تشكل لدى المشاهد نقطة تساؤل وللدراما بعض الحدة. تخلق بعض الصراع الذي يتجاوز الشأن العام إلى ما هو خاص.

الجهد الأفضل للمخرج هو في استخلاص أداء صادق من بطليه الرئيسيين؛ خالد النبوي وأغنيس بروكنر، ومعالجة مشاهدهما معا بكل ما يعكس إلمامه بدرامية الموقف والحدود التي يريد الذهاب إليها، مما يؤكد أن الإشكال ليس في المعالجة الفنية والبصرية، ولا حتى في الفكرة المختارة للفيلم وما يتناوله، فقط في ذهاب المخرج إلى حيث كان من المفترض معالجة المادة بقدر أعلى من الواقعية.

عودة بلا اتجاه فيلم آن ماري جاسر الجديد «لما شفتك»، (وهو فيلم موفد باسم فلسطين في المرحلة الأولى من سباق «الأوسكار» لأفضل فيلم أجنبي)، لديه شرائح من المشاكل وليس مشكلة واحدة. يعاني كما من الأخطاء وليس من خطأ أو اثنين كما الحال في «المواطن». لكن، لنبدأ من البداية: دراما تقع أحداثها في الأيام اللاحقة لهزيمة عام 1967 حين لجأ فلسطينيون هاربون من الاحتلال الإسرائيلي إلى الأردن. هناك أم (روبي بلال)، وابنها الصغير (محمود أصفا)، من بين اللاجئين، وهما ينتظران أن ينضم إليهما الأب، لكن هذا لا يأتي لا في الحافلة الأولى ولا الثانية، مما يعزز رغبة الصبي في العودة إلى فلسطين ولو وحيدا للبحث عنه. على الطريق يلتقطه فدائي من معسكر تدريب ويعود به إلى المعسكر حيث يفرح الصبي، واسمه طارق، بوجوده هناك، متمنيا الانضمام إلى هؤلاء الفدائيين الساعين لمقاتلة العدو. الأم تلحقه وتصل (كيف؟) إلى المعسكر، المفترض أن يكون سريا. ومزيد من المفارقات التي تنشأ عن رغبة الأم في العودة بابنها إلى القرية السكنية التي خصصت للمهاجرين ورفضه ذلك، وبعض المشاعر العاطفية التي تتبدى بينها وبين أحد المقاتلين، من دون بلورة في اتجاه ما. في النهاية، يتوجـه الصبي وحيدا إلى الحدود لكي يجتازها عائدا إلى فلسطين، وتلحق به أمـه، لكن عوض أن تمنعه من هذه الخطوة تنضم إليه في مسعاه، وينتهي الفيلم بلقطة ثابتة لهما تستدعي تصفيق الحاضرين.

ليس معروفا من الجمهور الذي في البال لهذا الفيلم. ليس مصوغا ليسترجع ذكريات، ولا ليحيي فترة أو لينتقدها. ليس مصنوعا بغاية عاطفية ساذجة ولا كفيلم سياسي. ولا هو يغازل المشاهد الغربي، وليس عنده جديد للمشاهد العربي. قوامه في الواقع عرض لعلاقة أم بابنها وابنها بالرغبة في العودة إلى فلسطين للقاء أبيه (لا شيء عن حق العودة أو ما سواه)، والقصــة بلا جوانب، نحيفة الشأن لا بطانة لها.

إلى ذلك، فإن الكثير من المشاهد، المفترض بها أن تعني شيئا، تمر خالية الوفاض. هناك، على سبيل المثال، ذلك المشهد الذي يعود به مقاتل من الجبهة جريحا. لقطة له وهو يتقدم بمساعدة رفاق يجلسونه على صخرة للاعتناء به. ينظر إليهم ثم إلى الفضاء القريب ويقول: «شاهدنا أضواء القدس». ثم، وفي الثانية ذاتها، يتم القطع لمشهد آخر، ولأمر مختلف، من قبل أن يحفر هذا المشهد أي خدود نفسية داخل مشاهديه. الفيلم، بأسره، يستنفد لقطاته من قبل أن تستنفد معانيها. يدخل ويخرج مقترحات في الصورة ثم يتركها منطوية.

ومشهد البداية وحده دليل على أن المخرجة بحاجة إلى التفكير قبل الإقدام: لقطة أولى على قدمين تلبسان كراجات على طريق ريفية. قطع للابسها ثم لأطفال آخرين يهاجمونه لكي يأخذوه منها. وبينما هو منبطح على بطنه يسمع والصبية صوت بوق الشاحنة المقبلة. ينطلق الجميع بأسرها. مقدمة أفضل، كان عليها أن تستوحي من الحالة مصدر اهتمامها. بما أن الشاحنة هي ما ينتظره أهل تلك القرية لما تحمله من أقارب وعائلات نازحة، فإن عليها هي أن تكون محور المشهد الأول وليس الكراجات أو الأطفال. هي أو أي شيء مناسب لفكرة الانتظار الطويل الذي تعنيه المناسبة.