30 فنانا مستشرقا من 30 بلدا في معرض «بلاد الشام» في الشارقة

رحلة فنية إلى القرن الـ19 في 171 لوحة من مقتنيات سلطان بن محمد القاسمي

طرطوس من جزيرة أرواد للفنان دبليو إتش بارتليت
TT

تأتي أهمية معرض «بلاد الشام»، 23 سبتمبر (أيلول) 23 أكتوبر (تشرين الأول)، كون المجموعة المنتخبة من أعمال المستشرقين تعرض للمرة الأولى في الشارقة، وتضم مقتنيات سلطان بن محمد القاسمي، من الأعمال الطباعية البارزة التي أبدعها أكثر من ثلاثين فنانا مستشرقا. وقد افتتح المعرض حاكم الشارقة بمتحف الشارقة للفنون بمنطقة الشويهيين حيث أقيم بالتعاون مع دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة. المعرض الذي يقدم توثيقا للقرن الـ19 يضم 171 عملا أبدعها أكثر من 30 رساما من بلدان أوروبا حول بلاد الشام (فلسطين – لبنان – سوريا – الأردن). وتضمن البرنامج الموازي ندوة فكرية عقدت في مقر دائرة الثقافة والإعلام وكذلك مجموعة من الورش التخصصية في فن الحفر يقدمها ثلاثة من الفنانين العرب من فلسطين، الأردن، سوريا، إضافة إلى برنامج تعليمي وزيارات جامعية ومدرسية.

سجل الفنانون المستشرقون في 171 لوحة، منفذة بالطباعة الحجرية، وقائع الحياة آنذاك وآثارها الكائنة في الربوع المترامية الأطراف، محاولين سبر الأغوار وتوثيق الحياة على حالتها، بما يتوافق مع رؤاهم وتوجهاتهم، أبرزهم: ديفيد روبرتس، ماك فارلان، بارتليت، ستانفيلد، ويليامز، كالكوت، تيرنر. لتؤكد هذه الأعمال على البعد الحضاري العميق لبلدان الشام بتاريخها الممتد عبر آلاف السنوات.

وقال رئيس دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عبد الله محمد العويس لـ«الشرق الأوسط»: «يعد تنظيم معرض بلاد الشام حدثا ثقافيا جديدا من أجل تواصل الدور الريادي لعاصمة الثقافة العربية في الاحتفاء بالمعارف والثقافات والفنون الإنسانية الجادة والراسخة، عبر فعاليات نوعية راكزة».

المعرض يقدم مجموعة مختارة من أعمال المستشرقين ويتضمن مختارات تحمل من التنوع والإبهار، ما يدلل على عظمة الموروث والتاريخ العربي، فضلا عن أن تلك الأعمال تعد نادرة وقيمة. فيما أكد هشام مظلوم، مدير إدارة الفنون في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة أن «معرض بلاد الشام يأتي في تواصل مشهود مع المقتنيات النادرة للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، إذ سبقه معرضان آخران هما (رحلة إلى بلاد فارس) و(الفنون العربية من القاهرة من خلال آثارهما)، لتشكل هذه المعارض سلسلة مترابطة من المعارض التخصصية الكبرى، التي تضفي على الساحة الفنية مسحة من الفنون الحضارية المرتبطة بالحياة السالفة وما تضمنته من إنجازات مادية ومعيشية».

وتتوزع الأعمال المعروضة على أربعة أقسام رئيسة، تمثل أربع دول هي فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، إلا أن العدد الأكبر ينتمي إلى فلسطين، إذ أظهرت اللوحات صور العمارة والأزياء وحياة الناس، إضافة إلى الكنائس والكهوف والمساجد في فلسطين. وتحتل مجموعة فلسطين المساحة الأكبر من حيث عدد اللوحات قياسا بالأقسام الأخرى، ربما نتيجة لولع الرسامين الاستشراقيين بسبر أغوار الأراضي المقدسة في فلسطين، واتجاههم لرسم عدد كبير من اللوحات التي تروي التاريخ وما يحفل به من آثار تنتشر في القدس، بيت لحم، الناصرة، الخليل، بيسان، أريحا، رام الله، عكا، بيت جبرين، جبل الزيتون، عسقلان، غزة، يافا، الرأس الأبيض. وتعكس اللوحات التي تصور لبنان فيضا من الجمال والسحر الذي تمتاز به الطبيعة اللبنانية بما لها من تنوع أخاذ وأفق مفتوح يمتد إلى اللانهايات القصية مارا ببساتين صيدا، أودية الأنهار، الشلالات، الجسور الممتدة بين ضفتي الليطاني، منابع المياه، القلاع، المعابد، والبوابات الصرحية في بعلبك، دير القمر وقصور بين الدين، جبال لبنان، ميناءي بيروت.

وتمتاز اللوحات الاستشراقية في الأردن بالتنوع الكبير الشاهد على ثراء التاريخ والطبيعة في هذه البقعة الشامية المترامية الأطراف، بما تضمه في ثناياها من آثار البتراء الساحرة، ضريح النبي هارون، مخاضات نهر الأردن، إلى جانب الوديان، السهول، الحصون، الخزانات، وغير ذلك من مشاهد تنقل واقع وأحوال العرب في البادية والحضر. وتمثل لوحات المستشرقين في سوريا كثيرا من الآثار والأمكنة الشهيرة مثل قلعة شما، مغارة بانياس، جبل حرومون، نهر بردى، طرطوس، دمشق، سهل اللاذقية، كما يصور البعض هذه اللوحات مشاهد عرب حوران، ومناظر داخلية في خانات دمشق، إلى جانب عدد من المناظر البديعة لقرى ومدن شامية مر عليها المستشرقون دون أن يغفلوا توثيقها بصريا لما لها من سحر ورونق أخاذين.

حفلت لوحات الفنانين المستشرقين بالكثير من المشاهد البانورامية التي تحوي الأمكنة، والتصورات المرئية الواقعية، بالغة المهارة والإتقان تعنى بالمنظر العام مع ولعها بالتفاصيل الدقيقة لأبرز ما وجد في أرجاء بلاد الشام الشاسعة الممتدة من الساحل الشرقي لبحر الأبيض المتوسط إلى حدود بلاد الرافدين من مدن، قرى، بحيرات، أنهار، بحار، وديان، سهول، البوابات، الأسوار، مضارب الخيل، الشواهد الأثرية، وكذلك الجسور والطرقات. مما تؤكد هذه اللوحات البعد الحضاري العميق لبلدان الشام بتاريخها الممتد عبر آلاف السنوات. تجسد لوحات الفنانين الذاكرة والمعرفة وشغف العين والرؤية، وهي جزء أساسي من الاستشراق، لأنها تعكس بواقعية وصدق كبيرين مظاهر الحياة العربية في جميع تجلياتها تعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر في المرحلة التي سبقت اكتشاف الصورة الضوئية. ويتجسد المنظر الشرقي عبر موضوعات أليفة عن الحريم والعبيد وجواري القصور في جو من الزخارف الإسلامية في العمارة. كان المحرك الأساسي الذي ينبض في أرواح هؤلاء الفنانين، وأبرزهم: ديفيد روبرتس (1796 - 1864) وويليام هنري بارتليت (1809 - 1854) وويليام جيمس مولر (1812 - 1845) وجوزيف مالورد وليم ترنر (1775 - 1851)، الملقب بـ«رسام النور» وعبقري الرومانسية الإنجليزية. وبالإضافة إلى القيم الجمالية التي أفرزتها هذه اللوحات الاستشراقية، فإنها تجسد الحداثة التشكيلية في بداية القرن العشرين. وجل ما كان يجذب الفنانين الأوروبيين آنذاك هو الضوء كما فعل يوجين ديلاكروا عندما سافر إلى المغرب بحثا عنه، فعاد بلوحات تختلف ألوانها عن كل ما رسمه فيما قبل. إضافة إلى الهوس بالغرائبية التي كرست الخيال والنزعة العاطفية والرومانسية، ممتزجة بلذة اكتشاف العالم الشرقي الذي لم تكتشفه الحملات الاستعمارية. وكانت القدس بؤرة اهتمام الرسامين من مختلف أنحاء العالم، باعتبارها منبع الحضارات القديمة.

وكان لكل فنان رؤيته الخاصة في الشرق وإن تميزت بسمات مشتركة، لوحات الرسام جوزيف مالورد وليم ترنر تكشف عن جانب طوبوغرافي - آثاري تتجمع فيها عناصر الطبيعة. وكما تشير الباحثة، مها عزة سلطان، إلى تأثيرات غير مباشرة للرسام ترنر على مسار كل من روبرتس وبارتليت، في توجه كل منهما في غمار الفن. فقد عرف عن الرسام الأسكوتلندي ديفيد روبرتس شغفه بألف ليلة وليلة والفن القوطي، فرسم بوابة دمشق، وقبة الصخرة، والمساجد والمعابد والقلاع والموانئ وغيرها. وقد وضع دراسة حول الألوان المائية بعد عودته إلى لندن. كما اشتهر بالليتوغرافي، أي تقنية الطباعة الحجرية. وإذا كانت دمشق هي حلم روبرتس الذي لم يتحقق، فإنها تتراءى في أعمال مواطنه الإنجليزي وليم بارتليت الذي تغنى بها كجنة على الأرض. فقد سجلت رحلته إلى الشرق للمرة الأولى في عام 1834 حين زار يافا وعكا لينتقل بعدها إلى صور وصيدا وبيروت وطرابلس وجبل لبنان وبعلبك، قبل أن ينهي جولته في دمشق. رسم خلال هذه الرحلة مئات المناظر بمحلول أحبار القريبة من المائيات، ونشرها في عام 1835 في كتاب بعنوان «سوريا الأرض المقدسة»، تضمن 107 لوحة غرافور.

ويعد بارتليت نموذجا لفناني عصره، فقد اهتم بالشرق كصورة وفكرة وتخيلات. رسم المباني الأثرية والنصب التذكارية وقام بمسح شامل للآثار الفرعونية والمسيحية والإسلامية.

لوحات المعرض الـ171 تجعلنا نغور في ماضي الذاكرة، الأزمنة والأمكنة، التي خلدها الرسامون بريشهم وألوانهم، يروون لنا احتفاءهم بالشمس وترحالهم على صهوات الأحصنة وترنحهم فوق هامات الجمال، وشغفهم بارتداء الأزياء العربية. كانت رائحة الشرق ومذاقاته هي المحرك الأساسي في إثارة مخيلتهم الفنية، ولولاهم لما وصل لنا ذلك العهد، فهم ثبتوا صورا أصبحت الآن وثائق مؤكدة لحياة غابرة، عاشها أسلافنا بكل عمق ودراية. وبفضلهم يمكننا الآن أن نتجول في أروقة المتاحف ونبصر حقيقة تراثنا عبر ريشة هؤلاء الفنانين الذين خلدوا لنا الشرق وألوانه.