معرض في باريس لأسادور.. الرسام اللبناني المسكون بحنين مزمن

لوحات تقترح شيئا من النظام لفوضى هذا العالم

لوحات من المعرض
TT

منذ العقود الأولى للقرن الماضي، احتضنت العاصمة الفرنسية رسامين ونحاتين من كل قارات العالم، قصدوها لاكتشاف المدارس الفنية الجديدة وتدريب العين على الجمال في متاحفها وصالات عرضها وورشاتها وشوارعها ومبانيها وجسورها التي تتمطى فوق النهر مثل «موديلات» جاهزة للرسم. والرسام أسادور، الأرمني المولود في لبنان عام 1943. لم يتأخر عن تلبية نداء باريس، فترك بيروت وهو في العشرين من العمر وفي جيبه منحة دراسية لمدة سنتين لتعلم الرسم وفن الحفر «الغرافيك» في إيطاليا. وبعدها توجه إلى فرنسا بعد أن جاءته منحة ثانية من معهد الفنون الجميلة في باريس، المدينة التي عاد ليقيم فيها، حاليا.

اليوم، تقدم غاليري «كلود ليمان» في باريس معرضا شخصيا يضم 43 عملا لأسادور، منها 28 لوحة زيتية على القماش، و15 لوحة مرسومة بألوان «الغواش» على الورق. وهي عجينة مائية تبهت ألوانها عند جفافها. وهي المرة الأولى، منذ سنوات، التي يخصص فيها معرض بهذه الأهمية للفنان المتعدد المنابع. ذلك أن علاقة أسادور بصالات العرض الباريسية تعود إلى سنوات طوال مضت، منذ أن قدمت الصالة التي كان يديرها وضاح فارس أعماله لدى مشاركاتها في السوق الدولية للفن المعاصر «فياك». كما أقيمت لأسادور معارض في ألمانيا وإيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى معارضه في مسقط رأسه.

عنه، يقول كلود ليمان: «يعتبر أسادور من معلمي فن الحفر المعاصر. وإلى جانب ذلك، كان له رصيد ثري وواسع من الأعمال المرسومة بالغواش والألوان الزيتية النادرة والمطلوبة. فالفنان يعمل كثيرا لكنه مقل في إنتاج اللوحات. لقد نجح في بناء عالمه الفني الخاص مستندا على تيارين اجتذباه وتأثر بهما، أولهما التيار البنائي الذي ظهر أوائل القرن الماضي وارتبط اسمه بمعهد بوهاوس للفنون في مدينة فايمار الألمانية، وثانيهما المدرسة السريالية الباريسية. وسواء في محفوراته أو في لوحاته، فإن الشخوص والأشكال الهندسية تتداخل مع مشهد حضري ذي هياكل معمارية تبدو وكأنها تسعى لبث شيء من الترتيب والنظام في فوضى العالم كما رآها في بيروت، وكما يراها حتى الآن».

في السنوات الأخيرة، بدأت تغيرات مهمة بالظهور في ممارساته الصورية التي كانت تبدو، للوهلة الأولى، مثل لعبة «ميكانو» مبعثرة. وحسب ليمان فقد تراجع اللون الواحد المهيمن وراحت المساحات الرصاصية والزرقاء والسوداء تطغى على اللوحة وتأخذ محل البرتقالي، مع ظهور أطياف من عدة درجات لونية أخرى تخلق تشكيلات من مستويات متعددة ومتضادة. إن الفنان لم يفقد سيطرته الكاملة على انعكاسات الإضاءة على اللوحة. ولعل التغيير الأوضح يتبدى في بناء فضائها، حيث راحت التشكيلات البشرية الكبيرة تأخذ مكانها في مركز اللوحة عوضا عن التشكيلات الهندسية التي كانت تنظم الفوضى المدينية. لقد اختفت، عمليا، الشخوص الصغيرة المتعددة والمجهولة التي كان الفنان يبثها في فضاء لوحاته.

أما الناقد المتخصص في تاريخ الفن جيرار كزوريغيرا فيكتب في دليل المعرض أن أسادور «السري» وأمير التشفير، ذا الطبيعة المتحفظة ولكن الملتهبة، يبدو مثل أكثر أساتذة التدقيق في الصورة، يجمع عناصرها ويفككها ويركزها ثم يخلطها في مادة واحدة. ويضيف أن أعماله ليست وليدة المصادفة بل كل ما في اللوحة من فوضى محسوب بدقة.

إن أسادور لا يملك سوى خيارين أساسيين «إما أن يبدع أو أن يفنى». هذا ما يقوله الناقد والصحافي اللبناني جوزيف طراب عنه. ويضيف أنه كان، دائما، يعتبر العالم الخارجي والمحيط الإنساني نوعا من العدوان. وهو في حاجة لأن ينفرد بنفسه، ساعات طوال في اليوم، وحيدا مع عمله ولوحاته ليشتغل مثل فنان منتظم ودقيق وشامل. إن هذه الدقة هي علاجه. إنها ترتب فوضاه الداخلية وتهدئ من قلقه واختصاره الناجم عن حنين مزمن.

يستمر المعرض حتى أواخر الشهر الجاري.