مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي - 6 - هل من أزمة سبقت إعلان الجوائز؟

شبانا عزمي
TT

هناك حديث عن أن خلافا قام بين أعضاء لجنة التحكيم في مسابقة الفيلم الروائي أخّر التوصل إلى انتخاب الفيلم الفائز، وهو أمر طبيعي، وعادة ما ينتهي «على خير» فيتم الإقرار بالغالبية على نحو ديمقراطي ليفوز الفيلم الذي نال أكثر الأصوات.

في المقابل، هناك حديث آخر عن أن الخلاف إنما هو بين إدارة المهرجان ولجنة التحكيم من حيث إن رغبة الإدارة منح جائزة أفضل فيلم لعمل أجنبي بينما رشّحت لجنة التحكيم فيلما عربيا لهذه الغاية.

إنها 14 فيلما في هذه المسابقة ومعظمها جيد وما فوق: «الابن هو الفاعل» لدانيللي تشيري (إيطاليا)، «أراف» ليسيم أوسطا أوغلو (تركيا)، «جيبو والظل» لمانويل دي أوليفييرا (برتغال)، «تقاليد» لكيت شورتلاند (أستراليا/ بريطانيا)، «جينجر وروزا» لسالي بوتر (بريطانيا)، «الحب هو كل ما تحتاجه» لسوزان بير (الدنمارك)، «الحرّاقة بلوز» لموسى حداد (الجزائر)، «خيانة» لكيريل سيريريكوف (روسيا)، «العشاء الأخير» للو شوان (الصين)، «عطور الجزائر» لرشيد بن حاج (الجزائر)، «غضب بلا حدود» لتاكيشي كيتانو (اليابان)، «في المنزل» لفرنسوا أوزون (فرنسا)، «مانموتش» لنوري بوزيد (تونس)، «كل يوم» لمايكل وينتربوتوم (بريطانيا)، و«لا» لبابلو لورين (تشيلي).

أما لجنة التحكيم فمؤلفة من نيكي كريمي، وهي ممثلة إيرانية تعيش في الغرب، والمخرج المغربي الجيد إسماعيل فروخي والمنتج سيدومير كولار (يوغوسلافيا) والإعلامي سمير فريد (مصر). أما رئيسة لجنة التحكيم فهي الممثلة الهندية شبانة عزمي.

صراع لجنة التحكيم فيما بينها من المرجح أنه دار منذ انتهاء المداولات بعد ظهر أول من أمس (الخميس)، بين الفيلمين، التونسي «مانموتش» والبرتغالي «جيبو والظل» والبريطاني «جنجر وروزا» وربما «خيانة» الروسي.

والمرجّح أيضا أن التصويت الأول ذهب لصالح فيلم فاز بـ3 أصوات فاحتج عضو رابع على النتيجة. وهذا العضو اشتكى في اليوم التالي علنا من أن «الديمقراطية لا تصلح»، مما يعني أنه كان أحد المعارضين وأنه لا يريد قبول النتيجة.

هذا مفاد الرواية الأولى وتبعاتها وهي، كما هو واضح، أزمة داخل لجنة التحكيم حدث مثلها في مهرجانات أخرى، مما استدعى في النهاية تراجع أحد الأطراف أو خروج النتائج من دون فائز أول.

لكن الرواية الثانية، إذا كانت صحيحة، هي أصعب وضعا. لأنه إذا كانت الإدارة تبغي أن تخرج الجائزة الأولى لفيلم أجنبي، فإن ذلك يعود إلى أنها تريد حماية المهرجان من النظر إليه كحدث محلي. فعلى صعيد عالمي، يثير المهرجان (أي مهرجان كبير يُقام في دولة غير أوروبية) رد فعل أكثر انتشارا واهتماما فيما لو كان الرابح بالجائزة الأولى هو فيلم أجنبي. الفيلم العربي (أو التركي أو أي بلد آسيوي أو أفريقي) لن يحظى خبر فوزه بالقيمة ذاتها.

لكن المسألة عويصة بالفعل: من ناحية من حق المهرجان الدفاع عن صيته ومن حق لجنة التحكيم أن تنأى برأيها عن قرار مسبق.

هذا كلـه، مرة أخرى، إذا كانت هذه الروايات المترددة (ومصادرها في الواقع من تلك التي يمكن الاعتماد عليها والثقة بها) صحيحة، وغالبا هي كذلك، وإن غابت التفاصيل.

هل يمكن أن ننظر إلى مسابقتين منفصلتين في الأعوام المقبلة، واحدة أجنبية وأخرى عربية؟ وهل يمكن لنا أن نتوقع لجنة تحكيم مؤلفة من خبرات خالية من المصالح المعتادة؟ ربما. لكن ما يفعله كل ذلك تذكيرنا بمأزق مر به مهرجان قرطاج السينمائي أكثر من مرة من قبل، فمسابقته الرئيسية تجمع بين الأفلام الأفريقية والأفلام العربية (المقبلة من أفريقيا وآسيا) وحدث أكثر من مرة أن اشتكى الأفارقة من أن الجوائز الأولى تذهب إلى الأفلام العربية، وأن اتهم العرب المهرجان التونسي بأنه يمنح السينما الأفريقية جوائزه الأولى عنوة.

الحقيقة دائما تكمن في التفاصيل، والتفاصيل قد لا تعرف قبل إسدال الستار على المهرجان.

مهما يكن، جاءت هذه الدورة السادسة أفضل من كل دوراته السابقة، حسب ضيوف حضروا ما لا يقل عن 3 من دوراته السابقة. تسأل أحدهم عن السبب فيقول لك إن المهرجان أظهر هذه المرة تنظيما وإدارة لم يتوفرا من قبل. آخر يقول: «كانت هناك إدارة وتنظيم جيدان تحت إدارة الرئيس السابق بيتر سكارلت، لكن المهرجان عانى حينها من محاولته أن يكون كل شيء، في حين أن هذه الدورة تبدو أكثر تكاملا وأقل (توهانا)».

من ناحيته، يقول واين بورغ، الرئيس التنفيذي لمؤسسة «24» (fiftyfour) التي تشرف على المهرجان في حديث خاص: «حاولت أن أستغني عن كل تلك الزوائد التي جعلت المهرجان يبدو مشتتا ومترهلا. المهم عندي هو أن يضع المهرجان بصمته على نحو احترافي، وليس لمجرد أنه فيلم كبير في ميزانيّته أو في عدد النجوم المقبلين إليه. أريد مهرجانا محترفا بالفعل».

البحث عن النفط والرمال والتاريخ البعيد

* حفلت مسابقة الأفلام التسجيلية بعدد من أفضل ما تم إنتاجه هذا العام من أفلام في هذا المضمار. وكثير منها يبقى في الذاكرة مع وصول المهرجان إلى ساعاته الأخيرة، يوم أمس، ليس بسبب مواضيعها، فهذه لا بد أن تتنوع لتشمل مواضيع كثيرة، بل بسبب طريقة طرح هذه المواضيع، مما يعيدنا إلى حقيقة أن الفيلم أساسا هو شكل الموضوع وليس الموضوع ذاته. المعالجة وليس ما يطرحه.

الصور الإنسانية الواردة في الفيلم الروسي «أنطون موجود هنا» لليوبوف أركوس لا يمكن ردها. الحكاية الخاصة بشاب مصاب بمرض الانطواء (أو «التوحد») تكشف عن خلفية أوسع تتعاطى والمحن الاجتماعية المحيطة بالشاب صاحب المعضلة وهذا ما يحدث، بفاعلية فنية لا بأس بها، مع فيلم مصري عنوانه «إنقاذ محمد من الماء» أخرجته صفاء فتحي حول رجل مصاب بالفشل الكلوي الذي يهدد حياته. الكاميرا تعايشه وأهله وتحضر حواراتهم حوله لكنها تصل إلى نقطتها الشمولية حين تتحدث عن البيئة التي تسببت في إصابته وإصابة الحالات المتزايدة بين المصريين. فنهر النيل الذي يشرب منه البشر هناك، تم تلويثه عبر عقود متوالية بحيث بات مصدر خطر على الصحة. يرينا الفيلم، قبل أن يعود إلى حديثه عن بطله، كيف أن القاذورات والكيماويات والمجاري وألوان التلوث المختلفة كلها تصب في ذلك النيل الذي أريد له أن يكون هبة لمصر جميعا ولأجيالها المتتابعة.

من مصر، أيضا فيلم غير متوقع عنوانه «البحث عن النفط والرمال» وعدم توقعه يعود إلى حقيقة أنه فيلم عن فيلم كان مفقودا وتم اكتشافه. وهو ليس أي فيلم يتم اكتشافه بعد عقود من إنجازه، بل هو فيلم يدخل في صلب ما حدث في مصر في عام 1952، قبل أشهر قليلة قبل الثورة التي عزلت الملك فاروق، وحوّلت مصر إلى جمهورية تحت قيادة مجلس عسكري.

فيلم مفقود

* «البحث عن النفط والرمال» يبدأ بمحمد ثابت الذي هو ابن ممثلة أميركية غير معروفة اسمها فرنسيس رامسدن جاءت إلى مصر في ذلك العام، ووجدت نفسها أمام الكاميرا من جديد في فيلم بعنوان «النفط والرمال». محمد ثابت (تقول نهاية الفيلم إنه من إخراجه لجانب فيليب ديب، لكن «كاتالوغ» المهرجان يعيد الإخراج إلى وائل عمر وفيليب ديب!) يصل إلى القاهرة للإشراف على ورثة والده عادل ثابت الذي كان تعرف على الممثلة الأميركية وتزوجها خلال التصوير.

الإنتاج كان، إلى حد بعيد، ملكيا، فالعائلة الحاكمة ممثلة بأمراء وأميرات وباشوات العائلة، أشرفت على إنتاجه، بل صوّرت جانبا منه في أحد قصورها خلال حفل كبير تم دعوة الأعيان والسفراء إليه.

هذا كلـه جديد لم يكن معروفا للمؤرخ العربي من قبل ولا ورد في التواريخ الكثيرة حول السينما المصرية التي نُشرت فيما لا يقل عن 10 كتب حتى الآن، وهو مهم كون الفيلم الماثل يعرض لنا مشاهد من الفيلم المفقود. هذه المشاهد تبدو كما لو كان الفيلم صامتا (هناك لوحات تفسير) علما بأن النطق كان حدث في أواخر العشرينات وتم في الثلاثينات أي قبل نحو عشرين سنة من تاريخ إنتاج هذا الفيلم. قد يكون السبب في ذلك أن الفيلم لم يكن أنجز كاملا فلم يدخل مرحلة ما بعد التصوير أصلا.

هنا تبرز نقاط أخرى مثيرة للاهتمام؛ ففيلم «البحث عن النفط والرمال» لا يتحدث فقط عن فيلم كان مفقودا، بل عن مرحلة تم افتقادها أيضا. في يوليو (تموز) من عام 1952 حدث انقلاب عسكري أطاح بالملك فاروق. وبعد أن يستعرض الفيلم مشاهد وأشرطة وثائقية مصورة من تلك الفترة وأخرى من كاميرا العائلة الملكية المعبرة عن حب الملك فاروق لفكرة التصوير السينمائي، يوعز الفيلم ببعد آخر ليس مقصودا في الفيلم لكنه يتبدى على الرغم من ذلك بوضوح؛ ففي حين آثر الملك فاروق الخروج من مصر عوض اللجوء إلى القوة والسلاح والتسبب بحرب أهلية، نجد اليوم ديكتاتوريات آمنت باللجوء إلى القتال والتقتيل دفاعا عن رغبتها في التمسك بأهداب السلطة حتى الرمق الأخير. شتان بين الموقفين.

حكاية الفيلم الذي في داخل الفيلم لها بعد مهم آخر: «النفط والرمال» هو فيلم مغامرات صحراوية حول نزاع بريطاني - أميركي حول استرضاء شيخ قبيلة عربية، وذلك إدراكا منهما بقيمة الثروة الطبيعية في أرضه. البلد في الفيلم خيالي، وغالبا الوقائع أيضا، لكن العمل ورد في فترة كانت قوة بريطانيا العظمى تتراخى عن مناطق نفوذها التقليدية، لتحل مكانها قوة العالم الجديد الممثل بالولايات المتحدة الأميركية.

لا تزيد مدة الفيلم عن ساعة يكشف فيها عن خضم من المعلومات الشخصية حول محمد ثابت وعائلته ومصر وبعض تاريخها المعزز بفيلم يخرج من رحى الزمن.