خلفيات جوائز مهرجان أبوظبي الدولي السينمائي

حفل الختام كان يشابه الدورة بأسرها من حيث التنظيم والدراسة

الفيلم الأفضل «جيبو والظل»
TT

سار كل شيء على ما يرام في حفل توزيع الجوائز ليلة أول من أمس، إلى حين قيام شخص عربي من لجنة تحكيم الأفلام الروائية بالوقوف أمام الميكروفون والتوجه إلى الحاضرين بخطبة طويلة وفي غير مكانها، سادها التلعثم وكلمات التفضيل وتفسير ما لا حاجة لتفسيره. وكما لو أن ذلك وحده لم يكن كافيا، أصر السينمائي على ترجمة ما قاله إلى الإنجليزية المكسرة التي لم يفهم منها الأجانب شيئا في حين كانت الإدارة خصصت مترجمة متخصصة لتترجم للأجانب الموجودين كل ما ينطق بالعربية. مع خبط الرجل الكلمات بعضها ببعض حاولت المترجمة فهم ما يقصد وتعذر عليها ذاك في بعض الأحيان.

الجيد في هذا الشأن أن خطبة العربي غير العصماء جاءت في نهايات الحفل. ما سبق (نحو ساعة وثلث الساعة) كان سلسا وناجحا وخاليا من الهفوات. حفل الختام كان يشابه الدورة بأسرها: مدروسة ومحددة وعملية. قبل وقوف ذاك على المنصة ليقول شيئا مثل «عادة يفتخر الفيلم باستلامه جائزة، لكن هذه المرة تفتخر لجنة التحكيم بالفيلم» (!)، لم يطل وقوف أحد. الكلمات كانت مقتضبة وفي مكانها. البهجة انتشرت والنتائج جاءت في صالح كل من قدم عملا جيدا مع وجود ذلك التفاوت بين التوقعات.

حسنا، لم يكن الفيلم التركي «أراف: مكان ما في الوسط» (ليسم أوسطاأوغلو) الذي فاز بجائزة «اللؤلؤة السوداء» أفضل ما عرض من أفلام شاركت في مسابقة الفيلم الروائي، لكنه كان واحدا من أفضلها، إلى جانب «في البيت» للفرنسي فرانسوا أوزون، و«جيبو والظل» للبرتغالي مانويل دي أوليفييرا، و«مانموتش» لنوري بوزيد، لكن كل واحد من هذه الأفلام، باستثناء «جيبو والظل» كانت لديه مشكلة تكمن ما بين السيناريو والإخراج. ما تميز به «أراف» التركي هو همه الاجتماعي الكبير متناولا حكاية فتاة تعمل في مطعم تلتقي بسائق شاحنة وتحبل منه في لحظة حلمت بها بخلاص من وضع عاطفي واجتماعي متأزم لتكتشف أنها تركت وحيدة لمواجهة مستقبل غامض. في الموازاة هناك حكاية الشاب الذي كان يحبها بصمت والذي يوجه جام غضبه إلى بيت أسرته التي تعاني التصدع حين يعلم بما حدث مع من يحب. لا يخلو الفيلم من تلك العناصر الميلودرامية، لكنه يتجاوز الهبوط في حفراتها أكثر من مرة، وفي المرات التي يسقط فيها يبقى شاغلا للعين وللاهتمام بفضل توليفته من الخاص والعام الذي يعرضه.

تعريف جائزة «لجنة التحكيم الخاصة»، التي حاول أحد الزملاء تفسيرها على المسرح فأخفق مرتين، مرة بالعربية ومرة حين ترجم لنفسه فإذا به يقول شيئا مختلفا عما قاله في المرة الأولى، هو أنها الجائزة التي يراها أعضاء لجنة التحكيم موازية إلى حد ما بالجائزة الكبرى. تقف ثانية وعلى مقربة وراءها لكنها لا تصل إلى موازاتها. بكلمات عملية: حين يخفق فيلم جيد ما، ولأسباب مختلفة، في الحصول على الجائزة الأولى فإنه - في أحيان كثيرة كما حدث هنا - يحصد ما يعرف بـ«جائزة لجنة التحكيم الخاصة». هذا هو كل الغموض الذي لم يكن بذلك القدر من الغموض المستوجب لخطبة إنشائية على الإطلاق.

«جيبو والظل» هو من فاز بها وإذا ما كان هناك فيلم يحلق عن كل الأفلام الأخرى في هذه المسابقة فهو هذا الفيلم الذي كان، والحال هكذا، يستحق الجائزة الأولى بلا نزاع. المخرج البرتغالي الذي دخل سن الـ104 سنوات ولا يزال يعمل بنشاط بمعدل فيلم كل ثمانية عشر شهرا كتابة أو إخراجا، مانويل دي أوليفييرا، يقدم صياغة سينمائية عن مسرحية للبرتغالي الراحل (1930) راؤول جرمانو برانداو حول عائلة من رجل عجوز اسمه جيبو (الفرنسي ميشال لاندسال) والأم دوروتيا (الإيطالية كلوديا كاردينالي) وزوجة ابنهما كانديدنا (جين مورو). هذه الصياغة ليست مستقلة لا عن النص ولا عن الصرح المسرحي في الشكل والتصميم العام وتستمد معظم شحنتها من الإجادة المطلقة من هذا الالتزام.. فهي موضوعة في موقع واحد (غرفة استقبال في منزل متواضع) بل في مكان واحد من هذه الغرفة غالبا (مكتب يعمل عليه جيبو كمحاسب وإلى جانبه كرسي آخر تتبادل زوجته وزوجة ابنه الجلوس عليه) وفي زمن واحد (ليل ونهار) وبلا أحداث تتطلب فعلا معينا، باستثناء واحد يقع مباشرة بعد منتصف الفيلم الذي لا تزيد مدة عرضه على 88.

رغم ذلك هو فيلم مشبع: جيبو محاسب يعيش وزوجته في دعة حالكة لديهما ابن شاب تحول إلى السرقة ومطارد من قبل الشرطة. الأحداث تقع في أواخر القرن التاسع عشر أو مطلع القرن العشرين، وفي كلا الحالتين كانت الكهرباء توفرت (وليس كما قال الخطيب «فيلم عن عصر ما قبل الكهرباء») لكن بيت جيبو خال منها لأنه معدم (كتب المسرحي برانداو أعماله كلها في زمن قريب من سنوات حياته التي امتدت لـ79 سنة). ها هو يحصي للشركة المصاريف والعائدات بأناة وأذنه لشكوى زوجته من الفقر الشديد الذي يعيشانه. زوجة ابنه (التي يعطف عليها جيبو كثيرا) تستمع إلى حوارهما متأثرة. الثلاثة يعيشون وضعا ماديا وعاطفيا صعبا رغم قوة العلاقة الأسرية بينهم، تلك التي خرج عنها الابن الغائب.

في أحد المشاهد يعود الابن خلسة وفي حضور جارين (فنان معدم بدوره وامرأة عجوز) وبعد انصرافهما يسطو الابن على مال أودعه الأب في خزنته على أنه مال الشركة الذي عليه تسليمه لها، ويهرب. تحاول زوجته منعه لكنها تفشل. يفيق الأب ويحاول اللحاق به لكنه لا يستطيع مجاراته في الركض.

المشهد الأول من الفيلم حادثة قتل لا نرى فيها لا القاتل ولا الضحية. في المشهد الأخير نعرف أن المال الذي كان بحوزة جيبو لم يكن مال الشركة بل مال الضحية، بذلك يكون ما قام بسرقته - وقتل من أجله - آل لابنه، أما هو فيواجه وصول رجال الشرطة وصياح أحد الشهود، مشيرا إليه: «هذا هو الفاعل». جيبو انتهى.

جائزة أفضل فيلم عربي في المسابقة تم حجبها بعد مداولات وخلافات على نحو ما أشرنا إليه أمس. لكن البديل كان منح المخرج نوري بوزيد جائزة أفضل مخرج عربي عن فيلمه «مانموتش» مما يثير مسألة مفادها أن المسابقة الرسمية للفيلم الروائي الطويل شهدت ثلاثة أفلام عربية فقط (كانت أربعة لكن تم سحب فيلم «بعد الموقعة» ليسري نصر الله بعد أن تم إطلاقه في الصالات التجارية في الإمارات قبل افتتاح المهرجان ببضعة أيام) هم الفيلم التونسي المشار إليه وفيلمان جزائريان «عطور الجزائر» لرشيد بن الحاج و«حراقة بلوز» لموسى حداد. لكل من الفيلمين الجزائريين مشاكلهما الفنية التي تحد من استحواذ الإعجاب. فإذا كانت هناك جائزة لأفضل فيلم عربي وكان «مانموتش» أفضل ما هو معروض لم إذن لم يتم التصويت عليه ومنحه هذه الجائزة؟ هل يمكن أن يكون أحد الأعضاء تشبث بفيلم عربي آخر، أم هل هناك من ارتأى عدم منح أي فيلم عربي أي جائزة؟

لجنة تحكيم قسم «آفاق جديدة» التي مثلها عربيا المخرج نواف الجناحي من الإمارات والمنتج العراقي محمد الدراجي منحت جائزتها الأولى للفيلم الإيراني «عائلة محترمة» للمخرج مسعود بخشي. وفي مجال تفسيرها اختياره أوردت: «لمعالجته الجديدة مستخدما الرواية مع واقعية حدثية»، وهو كلام لا يعني شيئا كثيرا ولا جديدا. لكن الفيلم إذا ما كان جيدا (وهو كذلك) فهو لأن المخرج تمسك بالنقر على مجتمع قابع تحت نظام يحصي أنفاسه وهاجم الفساد في أركانه. تبدأ الحكاية بمشادة بين بطل الفيلم المغترب بعد عشرين سنة من الهجرة وموظف يخبره أن أوراقه التي ستجيز له السفر مجددا لم تنته بعد. مع نهاية الفيلم، ليست الأوراق هي وحدها المحجوزة، بل هو نفسه، إذ يدخل السجن بفعلة من شقيقه الذي يريد الاستيلاء على الإرث. ومع أن المحور يدور حول وضع عائلي، إلا أن المخرج بخشي يطرق باب كل فرصة ليوعز بأن ما يحدث هو جزء من فساد يمتد ليشمل إدارات ومؤسسات حكومية ويدور في مجتمع مراقب لا يكن لفرد مستقل الروح أي قيمة إنسانية. رحلة بطل الفيلم في بلده هي بانوراما شاسعة لمناطق اضطراب فوق أرض الواقع تمتد لتشمل ما آلت إليه البلاد إثر حربها مع العراق وإلى اليوم.

الفيلم الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة هنا هو «وحوش البرية الجنوبية» للأميركي بن زيتلن، أما جائزة أفضل فيلم عربي فذهبت لفيلم آن ماري جاسر «لما شفتك» المصاب بركاكة كتابة قاتلة ولا يخلو من هشاشة في التنفيذ أيضا. لكنه يبقى مقبولا بالمقارنة، ولو أنه لا يصل إلى مستوى «تحفة» كما عمم البعض هنا. أما جائزة أفضل مخرجة من العالم العربي فذهبت إلى المصرية هالة لطفي عن فيلمها الجيد «الخروج للنهار».

المحطة الثالثة المهمة في المهرجان هي محطة الفيلم التسجيلي.

كما سبق القول، حشد المبرمجون عددا كبيرا من الأفلام الجيدة في هذه المسابقة تقدمها الفيلم الفائز بالجائزة الأولى «عالم ليس لنا» للمخرج مهدي فليفل الذي هو من مواليد مخيم «عين الحلوة» في لبنان والذي يعود إليه ليسجل معايشته له.

في نطاق جائزة لجنة التحكيم الخاصة أنجزت سارا بولي هنا ما لم تنجزه في معظم المهرجانات التي تسابق فيلمها «حكايات نرويها» فيها. إنه الفيلم الذي تكشف فيه المخرجة كيف اكتشفت أنها ليست ابنة الرجل الذي عاشت في كنفه مع أشقائها منذ أن أنجبتها أمها، زوجة ذلك الرجل.

الروسية ليوبوف أركوس فازت بجائزة أفضل مخرج جديد، والفيلم التسجيلي التونسي الممتاز «ملعون أبو الفسطاط» لسامي تليلي حظي بجائزة أفضل فيلم من العالم العربي في هذا المجال، بينما نال وائل عمر وفيليب ديب جائزة أفضل مخرج عربي.

إذ انتهت أيام المهرجان الحافلة، فإن الجهد الكبير المبذول من قبل الإدارة لإنجاحها يبقى ثابتا ويماثله جهد مدير البرمجة العربية إنتشال التميمي في استحواذ كل ما استطاع الوصول إليه من أفلام ليس في عداد أفلام المسابقة الأولى فقط، بل في نطاق كل الأفلام العربية المشاركة بصرف النظر عن الأقسام التي انضوت تحتها. التميمي قام بجهد ملحوظ في فترة زمنية قصيرة تلت صرف المدير السابق، بيتر سكارلت، وتعيين المدير الحالي علي الجابري.