«وجوه» غاليري «لام» في جدة تطارد المتلقي

حين يصبح الإنسان بقعة في مساحة تبدو الوجوه غريبة في المدينة

TT

هذا عالم آخر تسحرك طقوسه دون مقدمات، إنه مزيج من الوجوه. ففي كل الأحوال لا تنفك تلك الوجوه عن مطاردة المتلقي أينما اتجهت عيناه على اللوحات الممتدة على جدران القاعة، لعل هذا أول انطباع يداهمك وأنت تدخل معرض «وجوه»، الذي قدمه محمد ظاظا الفنان السوري على قاعة غاليري «لام» بمدينة الرياض.

تكتشف في كل مرة تتأملها كم هي شاردة أو يستبد بها الحزن، وربما الغضب والانكسار، وقد تمر على ذهنك مروج من المتخيلات بأكثر من لغة، إنها حالات تعبيرية خاصة التقطتها بلاغة ورهافة الفنان عن الوجه الإنساني التي لا يزال رسمها يستحضر إحدى أهم علامات الرسم تعبيرا خاصة عندما تتناول الحالات اللصيقة بحياة البشر الدائمة واقتناص أشد لحظات التحول أو التغير التي تكتسبها، وهي غالبا ما تتأرجح بين الحزن والفرح والتعاسة والسعادة والألم.

يعتبر الوجه مدخلا هاما وبوابة عبور تكشف الانطباع الأول عن الروح، وهو الجسر أو الوسيلة الأكثر بلاغة للوصول إلى دواخل النفس البشرية وما تحمله من أحاسيس متباينة تعبر عن الإنسان وانشغالاته، إنه علامة بصرية أقرب ما تكون إلى عنوان أو مقدمة كتاب. من هنا يكشف الوجه أهم علامات الإنسان الجمالية وأشدها بلاغة على التعبير، ومنه أيضا انطلقت تجربة محمد ظاظا التي تراوحت في طقوسها الفنية بين التشخيصية والتعبيرية، فيما طغى عليها حضور اللون على فراغ اللوحة، مستلهما من تلك الوجوه أهم الخصائص المرهفة في التكوين والشكل والإيقاع والتعبير الذي يأسر العين.

يرسم ظاظا الوجوه إما في زوايا لوحاته أو على زوايا تماس من القلق والحيرة والتفكير، مجسدا الرأس بحجم يفوق بقية الأعضاء، وفي بعض الأحيان يصادر الأذن فتصبح في عزلة من التفكير إلا من متعتها الخاصة مع التدخين، إنه يأنس عندما يترك للوجوه فضاء من الفراغ يتربص بها ويشكل سطوة تعبيرية مؤثرة من أجل مزيد من المعنى المتراكم والمتداخل الذي يستوحيه ويعيد صياغته، ربما من أجل التخلص من حلمها الواقعي في بيئتها التصويرية، إنه يعمل عمدا على تهميش المكان الذي تقع فيه.

يعالج محمد ظاظا الملامح التي يستخلصها وفق صياغة أقرب للتجريد منه إلى التشخيص الواقعي المتخيل، مستلهما من الدلالات الشكلية التعبيرية إشارات تكشف العلاقات بين مختلف عناصر التكوين وربطها بعملية من الغموض يتيح للخيال أقصى درجات الحرية لإعادة تشكيل الأشياء وفق منطق متداخل ومتناقض يجمع بين الواقع والخيال، وقد يتجاوزه إلى أبعد من ذلك.

عن تجربة الفنان قال عدنان الأحمد من دار «كلمات»: «لا شك أن هناك مدلولات ديناميكية تعمل على تنشيط العملية التأويلية، حيث يترك الفنان العنان للمتلقي للانعتاق في التعبير التلقائي لأشكال الوجوه التي يرسمها الفنان بتصرف، ومن ثم يعمل على محاولة إسقاطها على الواقع الخارجي».

لقد كشفت اللوحات النزعة الاحتجاجية التي تبرز ما يتعرض له الإنسان من معاناة وشقاء، ومحمد ظاظا كمبدع يريد أن يرفع الاستلاب عن الإنسان طالما أن وظيفة الفن تسمح له بذلك وفق سياق جمالي يرصد الواقع الممتلئ بالمتناقضات والفواجع والإرادة المسلوبة، ومن حقه كمبدع أن يهرب إلى شخوصه الإنسانية ليعبر عن دوره الفاعل والمؤثر في المجتمع.. لقد كشفت أعماله البصرية بلاغة موقفه مما يحدث في هذا العالم.

وقال ظاظا عن تجربته إنها «استغرقت ثمانية أشهر، وفي كل الأحوال فإن الوجوه تجسد إسقاطات ذاتية وتبدو حاضرة في الأعمال المعروضة، وما ألهمني هذا الطرح هي المشاهد الدرامية المؤثرة التي تحدث على واقعنا اليومي وتعكسه العين بحالته التعبيرية المؤثرة، لقد انشغلت فكريا بتجسيد الحالة الإنسانية، وحين يصبح الإنسان بقعة في مساحة وحين تبدو الوجوه غريبة في المدينة».