بغداد تودع فاتنتها وأسطورة الغناء الشعبي عفيفة إسكندر

«الشرق الأوسط» أول جريدة عربية نبهت لأحوالها وناشدت الحكومة العراقية إنقاذها

TT

تناقلت الأوساط المحلية والإعلامية نبأ وفاة فاتنة بغداد، وأسطورة الغناء الشعبي المطربة العراقية عفيفة إسكندر مساء أول من أمس، عن عمر يناهز 91 عاما، بعد معاناة طويلة مع المرض والعوز وإهمال الحكومة أحوالها إلى أن نشرت «الشرق الأوسط» لقاء مع الراحلة، تناول طبيعة حياتها الصعبة ومعاناتها في رحلة مرضها الذي أبقاها وحيدة إلا من معينتها «أم عيسى».

أيام عفيفة الأخيرة التي قضتها في مستشفى «مدينة الطب» ببغداد، لم تكن بأحسن من سابقتها بعد أن تركت في شقة صغيرة، بالطابق الثاني في إحدى العمارات السكنية القديمة في منطقة الكرادة الشرقية ببغداد، وكانت معيلتها تواجه صعوبات جمة في نقلها إلى العناية المركزة عندما تشتد أزمتها مع المرض الذي أصابها في كبرها، وهي التي أسعدت قلوب الملايين من محبيها في خمسينات وستينات القرن الماضي، حتى ارتبط اسمها بالأغنية البغدادية بشكل خاص؛ إذ عشقت الراحلة بغداد وأهلها ولهجتهم، وها هي توارى الثرى في المقبرة المسيحية ببغداد إلى جوار أمها.

وشكلت الراحلة عفيفة إسكندر جزءا مهما من تاريخ العراق الفني والاجتماعي والأدبي معا، حتى سميت بشحرورة بغداد، وكان مجلسها الثقافي أحد أهم المجالس الأدبية في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي.. يجمع الشخصيات البارزة ويرتاده ملوك ورؤساء وأدباء ذلك الزمان، وهي الوحيدة التي غنت القصيدة من مطربات بغداد.

«الشرق الأوسط» كانت زارت الراحلة عفيفة في شقتها في أيامها الأخيرة واطلعت على حال معيشتها الصعبة، وعزلتها الإجبارية؛ إذ لم تكن قادرة على الكلام، ولم يكن مهيأ لها السكن بشكل ملائم كي يعينها على ما أصابها من مرض منعها من الحركة والكلام والوعي أيضا، لأجل ذلك اعتزلت العالم بعد أن اعتزلها الآخرون، وبعد أن أنفقت كل ما جمعته خلال سنوات عملها لعلاج نفسها وتأمين حياتها، وصارت تعيش هي ومعيلتها على ما يردها من راتب شهري خصص لها من رئاسة الجمهورية قبل نحو عام ونيف، وراتب يسير خصصته لها وزارة الثقافة العراقية.

جارتها ومعيلتها ورفيقتها الوحيدة نهرين بيلس يوحنا، والمعروفة بـ«أم عيسى» وصفت الساعات الأخيرة لحياة عفيفة بالقول: «كانت ساعات صعبة؛ بل أياما، إذ تعرضت الراحلة إلى انتكاسات في وضعها الصحي، نقلت على أثرها للمستشفى، لكن حالتها كان تزداد سوءا وعلمت من الأطباء الموجودين أن أيامها في الحياة معدودة».

وأضافت: «قضيت مع عفاوي (هكذا تحب مناداتها) أكثر من ست سنوات، وكنت أرى صحتها في تراجع وكنت أتولى وحدي مسؤولية رعايتها صحيا واجتماعيا، فلم أعرف لها أهلا أو أقارب عدا بعض الفنانين الذي يأتون لزيارتها بين الحين والآخر». وأكدت: «اللقاء الذي نشرته جريدة (الشرق الأوسط) كان له بالغ الأثر لدى المعنيين الذين عاودوا صرف راتبها الرئاسي البالغ ألف دولار، وهو المبلغ الذي خصص لها وكان بالكاد يكفيها للعلاج والمستلزمات الضرورية».

وانتقدت «أم عيسى» إهمال الجهات الحكومية حال معظم الفنانين، فهم يموتون دون أن تعي شيئا عنهم، وقالت: «كان من الأجدر أن تخصص الدولة كادرا طبيا للعناية بعفيفة، كما نسمع عن المطربة اللبنانية صباح وهي تعيش شيخوختها، لكن السياسيين اليوم لم يعد يهمهم أحوال أهل الفن والأدب في البلاد».

ولدت عفيفة إسكندر في سوريا عام 1921 من أب مسيحي عراقي وأم يونانية، وكانت تجيد العزف على 5 آلات موسيقية، وشجعت ابنتها منذ الصغر على سماع الموسيقي والغناء والعزف على العود. ثم انتقلت الأسرة من حلب إلى أربيل حيث غنت لأول مرة على خشبة المسرح حين كانت في الثامنة من العمر عندما حلت محل مغنية غابت عن الحفل وأدت أغنية «زنوبة» وحظيت بإعجاب الجمهور. وعندما تأسست الإذاعة في بغداد قدمت طلبا للعمل فيها لكن الإدارة رفضت ذلك لأنها لا تشغل الأطفال. وكانت أيامذاك قد لمعت أسماء مطربين مشهورين مثل صديقة الملاية وقارئ المقام رشيد القندرجي والمطربة سليمة مراد. وبمرور الأعوام بدأت عفيفة حياتها الفنية وحققت نجاحا كبيرا لجمالها الأخاذ ولموهبتها الفذة وثقافتها ونطقها الجيد للقصائد العربية التي كانت تنتقيها بنفسها للغناء.

وبدأت عفيفة مشوارها الفني في عام 1935 في الملاهي الراقية والنوادي في بغداد، وصار كبار الشخصيات يدعونها لحفلاتهم الخاصة. وافتتحت عفيفة في بيتها في منطقة المسبح في بغداد صالونها الذي ارتاده الأدباء والشعراء والفنانون ومنهم الفنان المسرحي حقي الشبلي والشعراء محمد مهدي الجواهري وحسين مردان والكاتب مصطفى جواد (كان مستشارها اللغوي) وجعفر الخليلي وفائق السامرائي عضو مجلس الأمة وغيرهم، وذكرت عفيفة في لقاء معها أن الكاتب والفيلسوف علي الوردي صاحب «مهزلة العقل البشري» من أحب الكتاب العراقيين إليها. وكان أفراد العائلة المالكة يحضرون حفلاتها، كما أنها غنت في حفل خطوبة الملك فيصل الثاني في عام 1956 وحفل تتويجه في عام 1952. وكانت أول مغنية افتتحت بها برامج التلفزيون العراقي لدى تأسيسه في عام 1956. وقد أحب غناءها بالإضافة إلى الملك والوصي عبد الإله كل من نوري السعيد رئيس وزراء العراق الذي أحب المقام العراقي بسبب أدائها، وعبد الكريم قاسم قائد ثورة «14 تموز». لكن عبد السلام عارف كان يحاربها بعد توليه السلطة واتهمها بدفن الشيوعيين في حديقة بيتها.. علما بأن عفيفة إسكندر لم تكن تغني لقادة البلاد بناء على طلبهم؛ بل بمبادرة منها.

كما شاركت عفيفة في العمل السينمائي حيث أدت الدور الرئيسي في فيلم «القاهرة بغداد» إخراج الفنان المصري أحمد بدرخان وبمشاركة مديحة يسري وبشارة واكيم وغيرهم من مشاهير الفنانين المصريين، كما شاركت في فيلم «ليلى في العراق» إخراج أحمد كامل مرسي وبمشاركة الفنانين جعفر السعدي ونورهان وعبد الله العزاوي. وتعرفت في مصر على الأديب إبراهيم المازني والشاعر إبراهيم ناجي.