مهندس أميركي يتحدث عن مدن مليونية عائمة لا تخضع لأي دولة

طريقة جديدة لامتصاص الماء من الهواء تقرب حلم المدن العائمة من الحقيقة

TT

ليس هناك شبر واحد من اليابسة على كوكب الأرض لا يخضع إلى هذه الدولة أو تلك، أو إلى هذا الشخص أو تلك المنظمة، لكن البحار والمحيطات العظيمة على الأرض لا تخضع لملكية أحد. وتنص قوانين الأمم المتحدة الدولية على أن مياه البحر على عمق 200 ميل بحري من أي ساحل، هي «إرث جماعي للبشرية»، وهو ما يشجع ملايين البشر على الحلم، على الأقل، بمدن بحرية عائمة، ديمقراطية ومستقلة وبيئية، لا تخضع لأوامر هذه الحكومة أو هذا الديكتاتور.

واقع الحال أن المؤتمر العلمي الذي انعقد تحت شعار «يوتويبيا المدن السوبر»، في مدينة لينز النمساوية يوم 19 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، اهتم بمشروع «مدن الصحراء» أكثر من اهتمامه بمشروع المدن العائمة، لكن المدن الصحراوية تبقى خاضعة لقوانين الدولة التي تقام المدينة على أراضيها، وتبقى في هذه الحالة «ناقصة» بعيون الحالمين بالمدن المستقلة؛ إذ اقترح المهندس والباحث في شؤون المدن المستقبلية، السويدي ماغنوس لارسون، بناء المدن المكتفية ذاتيا في الصحراء، خلاصا من ضجيج المدن وتلوثها، وتحسبا للكوارث التي قد تحل بالعالم بسب تغيرات الطقس الدراماتيكية.

على هامش المؤتمر أعلن معهد فراونهوفر الألماني عن حل عملي، سهل، ورخيص، لمشكلة توفير المياه في المدن المستقبلية العائمة. واعتبر مايكل كينان، رئيس «معهد استيطان البحار» في كاليفورنيا أن مقترح المعهد الألماني خطوة مهمة على طريق بناء المدن العائمة، لأنه يعني حلا لمشكلة تكييف هذه المدن، وتوفير الطاقة لها أيضا..

تمكن علماء معهد فروانهوفر من ابتكار مزيج ملحي طبيعي عالي التركيز، ومن ثم فإنه قادر على امتزاز كميات كبيرة من رطوبة الجو. يدور مزيج المركبات الملحية المركز داخل مفاعل صغير يشبه «البرج»، يمكن نصبه فوق البيوت بأشكال وتصاميم أنيقة، ويقوم بامتصاص الماء من جو البحر، الرطب عادة، فيقل تركيزه. وعندما يمتز المركب الملحي الماء حد الإشباع، يصل إلى مفاعل صغير يجري تسخينه بتقنية ضوء الشمس، فيتبخر الماء ثم يجري تكثيفه داخل مرجل يتصل بشبكة مياه الشرب. وهو نقي وصالح للشرب ويحتوي على نسب عادية من الأملاح والمعادن التي يحتاجها جسم الإنسان. وطبيعي فإن المزيج الملحي يواصل تقلبه بين الحالة المركزة والحالة المخففة بالماء، ويزود المبنى بالماء طوال الوقت. مثل هذه الطريقة، وهذه الأملاح، قد تنجح في امتزاز الماء من جو الصحراء الجاف أيضا.

ويمكن لهذا المقترح، حسب رأي كينان، أن يحل محل مقترحات سابقة دعت إلى تجميع مياه جو البحر على سطوح باردة، بعد أن يتكثف الضباب عليها، كما يفعل الفلاحون ذلك في أستراليا، وأن يحل محل مقترح آخر دعا لاستخدام طرق تحلية مياه البحر السائدة حاليا في مختلف بلدان العالم. المقترح الأول لا يوفر المياه بشكل يكفي لمدن، وثبت أن المقترح الثاني لا يخلو من أضرار على البيئة، ثم إنه مكلف جدا. المهم في مقترح معهد فراونهوفر أنه من الممكن هنا مزاوجة مشروع مياه الشرب من رطوبة الجو لمشاريع تكميلية تتعلق بتكييف المدن العائمة، وتزويدها بالطاقة أيضا.

تم تأسيس معهد «استيطان البحار» عام 2008 بهدف تقريب يوم تحقيق حلم العيش في عرض البحر في مدن تعوم على منصات هائلة، وتتمتع باستقلالية ذاتية، وتدير نفسها بنفسها. ونال المعهد شهرة عالمية، والكثير من الدعم المادي، بعد أن أعلن بيتر ثيل، صاحب «باي - بال»، عن إعجابه بالفكرة ودعمه لها. وأعلن رئيس المعهد كينان يومها أن من الممكن، خلال بضعة عقود من الآن، بناء مدن مليونية عائمة.

وتحدث كونان لصحيفة «دي فيلت» الألمانية، بمناسبة مؤتمر لينز، عن ثلاثة مبادئ رئيسية في بناء المدن العائمة. المبدأ الأول هو ضرورة وجود مصب نهر قريب من مكان بناء المدن العائمة، ويجري في هذا النهر بناء المنصات العائمة الكبيرة، أو بناؤها في أجزاء يجري تجميعها لاحقا، ومن ثم سحبها إلى عرض البحر. المبدأ الثاني هو تثبيت هذه المدن في قاع البحر وعدم تركها لحركة الأمواج التي تتسبب للسكان بالدوار، وربما يجري ذلك بنفس طريقة بناء محطات التنقيب عن النفط العائمة. فهناك أسلاك هائلة، لا تتأكسد، تربط المحطة في قاع البحر، ثم إن هناك «مجاديف» تتحرك دائما عكس حركة موجات البحر وتتولى كسرها. المبدأ الثالث هو توفير الطاقة والبضائع والنقل بأبسط الطرق وأقلها كلفة. وهناك عدة مقترحات في كل مجال.

بنى اليابانيون في التسعينات، في مشروع مماثل أطلقوا عليه اسم «ميغافلوت»، منصة عائمة طولها 300 متر بمثابة مدرج مطار عائم. واكتشفوا أن تثبيت المنصة وتخليصها من حركة البحر، لا يمكن إلا قرب السواحل، ويتعذر فعله في عرض البحر، ولذلك فقد ألغوا المرحلة الثانية من المشروع، التي كانت تخطط لبناء مطار عائم طوله 1000 متر. وتوصلت شركة «ميتسوبيشي» إلى نتيجة مماثلة في معرض بحث خبرائها عن إمكانية لبناء المدن العائمة. نفذ علماء «ميتسوبيشي» الفكرة على الكومبيوتر بطريقة المحاكاة، وأقروا بصعوبة إقامة المدن العائمة بعيدا عن الساحل.

وبعد خبرة مماثلة حققها معهد استيطان البحار الأميركي، على صعيد طريقة بناء المدن العائمة بأسلوب حاملات الطائرات، وعلى صعيد بناء أعمدة يجري تثبيتها في قاع البحر (تصلح للمياه غير العميقة فقط)، يرى كينان أن أفضل طريقة مقنعة حتى الآن هي طريقة بناء محطات التنقيب عن النفط في عرض البحر.

وعن دوافع العيش في جزر صناعية تطفوا على الماء، قال كينان إن الخوف من المستقبل، ومن كوارث المدن، هو من أهم هذه الدوافع. إضافة إلى الهروب من الضجيج والتلوث، والعيش خارج هيمنة السلطات الرسمية. ثم هناك روح المغامرة، والبحث عن الجديد، والهروب من مخاطر العيش في المدن المزدحمة.

يذكر أن معهد استيطان البحار أعلن عام 2009 عن مسابقة لتصميم أفضل المدن العائمة، وما يزال يدرس الكثير من المقترحات، ويقوم خبراؤه بوضع الكثير من الرؤى المستقبلية، إلا أن الرأي لم يستقر بعد على صيغة معينة.

ويبني المعهد حاليا على الساحل الكاليفورني، قرب وادي السيليكون، أول مدينة عائمة تتألف من عدد من العوامات والمنصات العائمة التي يرتبط بعضها ببعض، وتستخدم مصادر الطاقة البيئية البديلة في العيش. ويقع مشروع «بلوسيد» هذا على عمق 12 ميلا بحريا من الساحل الكاليفورني، ولا يخضع بالتالي، حسب قوانين الولاية، إلى سلطات كاليفورنيا.