النمسا تحتفل بفنانها غوستاف كليمت بمناسبة 150 عاما على ميلاده

متاحفها تقيم المعارض للوحاته وتثير زوبعة من الاحتجاجات بسبب إباحية بعضها

TT

هذا عام كليمت من دون منازع. جرأة لوحات معرض «الرجل العاري» الذي تم افتتاحه قبل أيام ويضم 300 عمل فني تعكس الثوابت والمتغيرات المصاحبة للمفاهيم الجمالية للجسد الرجالي منذ عام 1800 حتى يومنا هذا.. هكذا أفصحت نخبة من الفنانين النمساويين في حديث لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة النقاش الدائر بالعاصمة النمساوية فيينا ما بين مؤيد ومعارض للمعرض لتوقيت افتتاحه خلال هذا العام لاحتفاء النمسا بأشهر رساميها الفنان غوستاف كليمت بمناسبة الذكرى الـ150 على مولده.

لا ينكر مؤيدو كليمت أن تخصيص معرض جديد من نوعه للوحات رجالية عارية فكرة غير مطروقة، ومع ذلك لا يعتقدون أنها ستقلل من الاهتمام الذي حظيت به لوحات كليمت التي تعتبر تقليدية بالمقارنة بأن أهمها مركزة على الجسد الأنثوي. وقد أثار معرض الرجل العاري اهتماما وجدلا بسبب «جرأة» بعض المجسمات والصور التي صاحبت حملته الإعلانية مما أثار غضب آباء ومسؤولين بإدارة التعليم مطالبين بستر الصور والمجسمات التي تم نشرها في الطرقات، مهددين بالتدخل شخصيا لتغطيتها، مما لفت الانتباه أكثر وأكثر للمعرض، وذاك هدف العارضين.

ما يلفت الانتباه أن متحف ليوبولد الذي يستضيف معرض الرجل يعتبر أكبر المتاحف النمساوية التي تضم أعمالا للفنان غوستاف كليمت الذي تتوزع غالبية أعماله ما بين متحف ليوبولد ومتحف الألبرتينا ومتحف قصر البلفدير. ويقف متحف الحركة الانفصالية «السيسيون» شاهدا على أهمية كليمت ليس في النمسا فحسب وإنما عالميا. المتحف بمبناه الأبيض وقبته الذهبية وموقعه الاستراتيجي وسط تقاطع يقود لأكثر من شارع من أهم شوارع فيينا يعكس دوره كمقر للحركة الفنية الداعية لإعلان الحقيقة و«كسر حواجز الخجل السلبي» التي قادها كليمت بدايات القرن العشرين متمردا هو وأقرانه ضد التقاليد الفنية والأساليب والأنماط الكلاسيكية التي كانت سائدة غير مبالين بنظرات الغضب والرفض التي قوبلت بها حركتهم وسط مجتمع تقليدي محافظ، ماضين في تحرر وتجديد خاصة في سلوكياتهم الشخصية وأساليبهم في رسم موديلاتهم النسائية.

ترك غوستاف كليمت (1862 - 1918)، مئات اللوحات الكاملة وغير الكاملة الملونة وغير الملونة كاسكتشات مرسومة على ورق بالطباشير وقلم الرصاص ظهر أن لها قيمة كبيرة في شرح مراحل تطوره وإظهار موهبته.

وعلى سبيل المثال فقط تم الأسبوع الماضي في مزاد بلندن بيع اثنين من تلك الاسكتشات الأولى بعنوان «الأم والطفل» والثانية باسم «اثنان بالحديقة» بمبلغ 81 و48 ألف جنيه إسترليني، بينما بيعت له عام 2006 لوحة «أديلا بلوخ باور» بمبلغ 135 مليون دولار. وللوحة، وهي رسم لسيدة تحمل هذا الاسم، مكانة خاصة لدى الجمهور النمساوي إذ ظلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية معلقة بقصر البلفدير إلى حين طالبت بها فجأة ابنة أخ للسيدة أديلا التي تحمل جنسية أميركية مقدمة في عام 2006 ما يثبت أنها الوريثة الوحيدة للسيدة أديلا كاشفة في قصة تكررت مرارا أن الحكومة النازية بعد اجتياحها فيينا كانت قد استولت على اللوحة. الوريثة كسبت قضية استرجاع اللوحة قانونيا وإزاحتها من موقعها بقصر البلفدير وتسليمها لها، ثم أقدمت على بيعها. واقترح البعض أن يتبرع الشعب النمساوي لشرائها عندما عجزت حكومته على توفير المبلغ المطلوب.

من جانب آخر، يضم قصر البلفدير لوحة «القبلة» التي تعتبر أشهر لوحات كليمت بل أشهر اللوحات النمساوية إطلاقا وواحدة من أفضل اللوحات التشكيلية عالميا. ويجيء اختيار البلفدير لاستضافة هذه اللوحة، التي تصفها مدارس بأنها فنيا أهم من لوحة «الموناليزا»، لأهمية البلفدير التاريخية ولجماله المعماري القائم على نمط الباروك.

شيد الأمير أوغن، قائد الجيش النمساوي الإمبراطوري، قصر البلفدير كمسكن له. بدأ العمل في بناء القصر نحو عام 1712. يتكون القصر من مبنيين، البلفدير الأعلى والبلفدير الأسفل، كلاهما ضخم وفخم ويقفان متواجهين وإن تباعدا كل في طرف، بينما تربط بينهما حديقة واسعة وجميلة أشبه ما تكون ببساط ملون تحيطه النوافير والتماثيل. خطط ونسق تلك الحديقة دومونيك غيارد الذي تتلمذ على يد أندرييه لو نوتغ مصمم حديقة قصر فرساي الفرنسي.

شهد البلفدير الكثير من الأحداث التاريخية المهمة ومنها حفل تنكري غير مسبوق أقيم بمناسبة زواج ماري أنطوانيت (كان عمر العروس 14 سنة ويكبرها العريس بعام) التي كانت والدتها الإمبراطورة ماريا تريزا، والتي اشترت البلفدير من وريثته ابنة أخي الأمير أوغن التي لم ترغب في الاحتفاظ به، والتي بسبب زيجة فاشلة غادرت فيينا برمتها مفضلة العيش في موطن رأسها مدينة تورين الإيطالية.

وبعد قيام الثورة الفرنسية عاشت بالمبنى الأسفل من البلفدير الأميرة ماري تريز شارلوت ابنة ماري أنطوانيت، وهي الوحيدة من تلك الأسرة المنكوبة التي نجت مما حدث لأمها وأبيها وأخيها.

وبالبلفدير أيضا عاش وريث إمبراطورية الهابسبرغ فرانس فيرديناند الذي أدى اغتياله لنشوب الحرب العالمية الأولى 1914 وبنهايتها سقطت الإمبراطورية النمساوية 1918.

من الناحية الفنية، يعتبر البلفدير من أوائل المتاحف عالميا إذ قررت الإمبراطورة ماريا تريزا في عام 1776 فتح الجزء الأعلى منه للجمهور ضمن برنامج للثقافة والتنوير على نطاق أوسع. وفي حقبة تاريخية متأخرة ارتبط البلفدير باستضافته للوحات أشهر فناني حركة الانفصال والتجديد «السيسيون»، ولا سيما أشهر فنانيها غوستاف كليمت وأشهر لوحاته.

بجانب قصر البلفدير يضم متحف ليوبولد بالمنطقة السادسة أكبر عدد من لوحات كليمت كما يضم أكبر عدد من لوحات فنانين تبعوا حركته الانفصالية أشهرهم فنان تتلمذ على يد كليمت ولا يقل عنه شهرة به تأثر وإن ارتبط اسمه بشكل مباشر بالفن التعبيري، هو الفنان إيغون شيلا 1890-1918 والذي مثل كليمت رسم لوحة لـ«قبلة» إلا أنها لم تحظ مطلقا بشهرة وسمعة كتلك العالمية التي حظيت بها لوحة كليمت.

عكس متحف البلفدير يعتبر متحف ليوبولد متحفا حديثا من حيث المعمار ومن حيث أسلوب المعروضات التي رسم معظمها بدايات القرن الماضي. تم افتتاحه عام 2005 بجهد شبه خاص قام به الدكتور رودلف ليوبولد وزوجته إليزابيث ثم دعمتهما لاحقا الحكومة النمساوية وبنك النمسا.

طيلة 50 عاما ظل الزوجان المحبان للفن يجمعان لوحات دفعا مقابلها مبالغ طائلة. لم يكن جمع تلك اللوحات أمرا هينا ألبتة، إذ خاضا من أجل بعضها معارك قانونية شاقة بسبب مطالبات ورثة أسر يهودية بأصول ملكيتها بدعوى أن السلطات النازية صادرتها من ذويهم بالقوة أو أجبرتهم على بيعها بيعا بخسارة، وحتى لا تغادر اللوحات النمسا سعى الزوجان ليوبولد لشراء ما أمكنهما.

تجسد معظم اللوحات تلك الثورة الفنية المتمردة التي اشتعلت على يد كليمت ومجموعة من رفاقه ممن أدخلوا الكثير من التحديثات والتحرر على الأنماط الفنية التي كانت سائدة حينها عارضين لوحاتهم ورسوماتهم الجديدة في متحف «السيسيون».

في سياق مواز، لعب متحف قصر الألبرتينا بالمنطقة الأولى، والذي يعود تاريخ إنشائه للأعوام 1742 إلى 1745، والمشهور بمطبوعاته التي يفوق عددها 65 ألف مطبوعة كما يضم الآلاف من رسومات الغرافيك والصور والخرط والمخطوطات، دورا كبيرا في تعريف الجمهور بأعمال كليمت التي تم عرضها في معرض خاص، وكعادة الألبرتينا فقد وسع من تعاملاته العالمية بالاستلاف لتنويع وتبادل أعمال كليمت كما وفر خمسة مجلدات كاملة ضمت مئات الأبحاث عنه بجانب أرشيف عرض له مائة عمل أصلي، بالإضافة إلى صور وخطابات من تلك التي اشتهر كليمت بإرسالها لمحبوباته، خاصة إيمللي فلوغا.

ورغم أن معظمها كان مراسلات لم تحمل أسرارا، لكن كليمت الذي لم يكن كثير الحديث وبه شيء من الغموض وعدم الاهتمام بمظهره قد اشتهر بكونه «زير نساء» ربطته غراميات وهوس بخلق علاقات مع النساء ومنهن بغايا رسمهن بمختلف أشكالهن قبيحات وجميلات، كاسيات وعاريات، وحتى وهن في حالات حمل مما اعتبر غريبا ومرفوضا. وتشير بعض المعلومات إلى أن علاقاته النسائية أنتجت 14 طفلا غير شرعي رغم أن المحكمة لم تعترف بغير أربعة.

بجانب تلك المتاحف المذكورة أعلاه، وبالإضافة إلى متحف «الغاليري الجديد» بنيويورك الذي أسسه رونالد لاودر الذي اشترى لوحة السيدة أديلا، اهتمت مؤسسة «غوغل» بتخصيص رسم أو «دودل» بمناسبة عام كليمت.

إلى ذلك، اهتم متحف الفنون التاريخية (أكبر المتاحف وأجملها وأثراها) في فيينا بإبراز نوع آخر من أنواع المهارات الفنية عند كليمت ألا وهو إبداعه في فن الديكور الداخلي وزخرفة وتزيين القاعات الكبرى وتجميل طلائها ونقش سقوفها، وكان ذلك عملا تجاريا نجح فيه كليمت أول أيامه ضمن شراكة جمعته هو وصديق وشقيقه أرنست، وكان لكليمت الذي نشأ في أسرة متواضعة الحال لأب نقاش ستة أشقاء. وحتى يتمكن زوار متحف الفنون التاريخية الفخم من الاستمتاع بنقوشات كليمت تم تشييد جسر خاص يرفع الزوار لمسافات أعلى لرؤية أقرب وأوضح.

وبالطبع، لم ولن يقتصر عام كليمت على متاحف فيينا. آثاره لا تزال في معظم المواقع السياحية وملصقاتها وكتيباتها تراها حاضرة وبقوة في متاجر المدينة ومئات البضائع التي تمت زخرفتها برسومات تحمل بصمات كليمت. ولم تقتصر الرسومات على «نساء» كليمت بل شملت مناظر طبيعية رسمها أول حياته على النمط التعبيري لمنطقة الترسي وبحيرتها الجميلة، حيث كان يفضل قضاء أشهر الصيف. وفازت أشهر لوحاته «القبلة»، حيث ظهرت على أكواب وعلب وحقائب وستائر ومناشف ومزهريات ولمبات وأقلام وربطات عنق ومراوح وحلويات. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل نظمت بعض الجهات مسابقات لتقديم أسخف نسخ للوحة «القبلة».

تعود شهرة غوستاف كليمت لإتقانه رسم الأنوثة كظاهرة طبيعية دامجا بين دقة الفن التطبيقي وشطحات حداثة الفن التشكيلي. وقد رسم نساء (ليس بالضرورة جميلات) خطتهن ريشته في إبداع وإتقان، وأحيانا وليس دائما، في رومانسية شديدة وإباحية وتحرر أكثر مع ميل واضح في كل الحالات للاهتمام بالتفاصيل من حيث إبراز أو اضمحلال انحناءات وثنايا الجسد بجانب اهتمامه إلى درجة المبالغة «والغرام» بتفاصيل المظهر والهندام والملابس وألوانها وتشكيلاتها وتصميماتها وإكسسوار المرأة صاحبة اللوحة إلى درجة تجعل بعض لوحاته تبدو أقرب لصور فوتوغرافية وكأنه قد التقطها بكاميرا عالية الجودة لسيدات وشخصيات عرفها وغالبا ما ربطته بها علاقات غرامية.

وعلى عكس ارتباط معظم لوحاته بشخصيات يمكن التعرف على صاحباتها وبعضهن سيدات مجتمع وتحديد هويتهن، إلا أن لوحة «القبلة» لم تحظ باتفاق لمن هي.

تصور «قبلة» كليمت امرأة في حالة هيام أشبه بالذوبان من تأثير قبلة يطبعها على خدها رجل يبدو وكأنه قد احتواها تماما. بجانب نجاحه في تصوير الحدث نجح كليمت في تلوينهما وتلوين الطبيعة من حولهما، وكعادته دقق كليمت في تفاصيل ملبسهما الذي جاء على شكل روب أو جلباب طويل يكسوه اللون الذهبي مع منمنمات مستطيلة باللون الأسود للرجل ودوائر بألوان متنوعة للمرأة.