«الناشماركت».. أشهر أسواق العاصمة النمساوية

يسميها الكبار بـ«المعدة» لارتباطها بالطعام وشبابها بـ«الاسبوت» باعتبارها مكان اللقاءات

المطاعم المميزة والجيدة أضحت في السنوات الأخيرة إحدى سمات «الناشماركت» («الشرق الأوسط»)
TT

هذه البامية من تايلاند وهذه من غانا وتلك من الهند، أما هذا الزيتون فإيطالي وذاك تونسي، وعلى يساره يوناني وعلى يمينه جزائري. ولو تجولت في قسم الوجبات الجاهزة لوجدت الحمص بالكاري وآخر وردي بالبنجر وثالثا أحمر بالفلفل، ولا تسألوا عن عدد أنواع الأجبان وألوانها وطعمها ورائحتها.

ودون شك سوف يدهشكم حجم الموز وأغراضه فليس كله حلو المذاق، بل هناك موز للطبخ والتحمير والسلق، وحتى الأناناس بل وحتى الكاكاو والبابايا متوفرة بكميات كبيرة، بعضها بحجم الأم وبعضها بحجم الطفل. تلك وغيرها من خضراوات وفاكهة ولحوم وأسماك هي البضائع الأساسية بأشهر أسواق العاصمة النمساوية «الناشماركت»، وهي سوق يسميها قدامى أهل فيينا «المعدة» لضخامتها ولارتباطها بالطعام فيما يسميها شبابها «الاسبوت» أو الموقع باعتبارها موقع اللقاءات لتناول الوجبات في الأمسيات والعطلات للفئة الاجتماعية المسماة «البوبوز»، وهي خليط من البرجوازيين والبوهميين ممن يمتلكون قدرة شرائية عالية لا يبالون عند صرفها على متطلبات الحياة اليومية ومتعها كتناول طعام شهي في مطعم مميز، وما أكثر المطاعم الجيدة والمميزة التي أمست في السنوات الأخيرة صفة من صفات الناشماركت، الذي لم تعد مجرد بضعة أكشاك صغيرة يقصدها أهل فيينا لشراء حفنة خضراوات وفاكهة ولحوم طازجة مرة أو مرتين أسبوعيا. وتوسعت السوق وتمددت مغطية مساحة 1.5 كيلومتر ما بين شارعي فيينا زايلا يمينا وشمالا حتى محطة كيتنبروكا منتشرة في قلب فيينا مواجهة بكل ثقة واعتداد متحف السيسيون، وعلى بعد بضعة كيلومترات من متحف التاريخ الطبيعي وليست بعيدة على الإطلاق من مبنى الأوبرا.

يرجع تاريخ نشأة الناشماركت للقرن السادس عشر كسوق بدأت بتجمع باعة الألبان والحلويات، ومنها استمدت السوق اسمها. في 1793 صدر قرار أن تتجمع بالناشماركت كل الخضراوات والفواكه القادمة للعاصمة عن طريق البر ومن ثم تم توسعتها بزيادة بضائعها وتنوع مصادرها بما في ذلك الأسماك والمأكولات البحرية. شيئا فشيئا زادت أهميتها كما انتشرت فيها المطاعم وأصبح بعضها من أشهر مطاعم فيينا المفضلة بين البوبوز ممن تستهويهم جودة خدماتها وأجوائها المريحة.

من جانب آخر ومنذ عام 1977 أضحت أرض فضاء واسعة تتبع للناشماركت سوقا مميزة لبيع الأثريات يقصدها كل سبت أهل فيينا وسياحها بحثا عن القديم النادر من تحف وكتب وأسطوانات وأواني كريستال وإكسسوارات بالإضافة لأشياء أخرى مستعملة لا تخطر على البال.

إلى ذلك، أضحت الناشماركت سوقا رائجة لأكشاك تبيع ملابس وأغطية طاولات ومفارش وقبعات ونظارات بما في ذلك ملابس رياضية تحمل شعارات مقلدة ومصنعة في أفريقيا والهند. ومما يلفت الانتباه عدم وجود بضائع صينية بين هؤلاء. لكن «لتشاشة» يختصر الوجود الصيني ويحتوي على متاجر ضخمة بالإضافة لبضعة مطاعم تحتدم المنافسة بينها، ومطاعم أخرى منها الإيطالية والنمساوية والشرق أوسطية بما في ذلك مطعم ياباني هو الأشهر لا يكتفي بالسوشي والأسماك النية وشوربة الشعرية والمعجنات مثل «النودلز» وإنما يقدم بيتزا يابانية، بجانب الكباب التركي وساندويتشات الطعمية أو الفلافل التي لها شعبية لا تضاهى ويصل سعر الساندويتش منها 3 يوروات.

هذا بينما يقر كثير من العرب أن الفلافل الإسرائيلية في طريقها لاكتساح الطعمية السودانية المصنوعة من «الكبكبيك» أو الحمص الخالص المبهرة بالكزبرة والشمار الأخضر الطازج مع قليل من البصل والثوم، المزخرفة حبة وراء حبة بالسمسم، المحمرة في زيت نقي متجدد وتلك المصرية المصنوعة من الفول والأخرى الشامية مطالبين بإسراع الجهات المسؤولة بتسجيل الفلافل وغيرها من أطباق شرق أوسطية كأطعمة عربية قبل أن يفوت الأوان ويتم استلابها من قبل الإسرائيليين.

من جانبه أشار عالم ببواطن الناشماركت في حديث هامس مع «الشرق الأوسط» خشية الاتهام بالعنصرية واللاسامية أن أثرياء من يهود فيينا أصبحوا أكثر ميلا للاستثمار المضمون في هذه السوق لما تتمتع بها من سمعة جيدة وتاريخ ومستقبل مستشهدا بما تشهده من تغييرات وتوسعات وتنوع ثري في نوعية زبائنه، مضيفا أن السياح وإن ظلوا قطاعا هاما من القطاعات التي تفضل الناشماركت إلا أن السياح يأتون ويذهبون ويتغيرون بينما يظل النمساوي ابن البلد هو الزبون الأهم بالإضافة للأجانب ممن يعيشون أو استوطنوا فيينا وما فتئوا يبحثون عن مقومات ضمن بضائعها العالمية المتنوعة لتحضير أطباقهم الوطنية وما يتماشى مع أذواقهم وعقائدهم الدينية.

في هذا السياق كان لـ«الشرق الأوسط» لقاء مع أشهر جزار مسلم بالناشماركت اسمه رسلان وهو فلسطيني من غزة ظل يعمل بالناشماركت منذ 21 عاما يناديه زبائنه من العرب ممن يقصدونه بحثا عن لحم حلال بـ«الحاج رسلان».

بعد الترحيب وما افتعله من حركات تنظيم وترتيب استعدادا لالتقاط بعض الصور قال رسلان إن الناشماركت ليس لها مثيل في فيينا لموقعها وسهولة الوصول إليها ونوعية وجودة معروضاتها، معززا حديثه بالاستشهاد بكثرة عمليات التفتيش التي تقوم بها دوريات الرقابة للتأكد من نظافة المحال وصحة العمال والتأكد من جودة البضائع والالتزام بالميزان والتقيد بالأسعار المعلنة.

وبحثا عن إجابة عملية على سؤال إن كان يتسنى لهم الذبح على الطريقة الإسلامية؟ قادني إلى غرفة ثلاجة يحفظ فيها خرافا مذبوحة كانت رؤوس بعضها ما تزال متهدلة لم تنفصل تماما عن الجسد كما كان هناك عدد من الرؤوس مفصولة ومكومة في طريقها للبيع ولم يكتف بذلك بل حمل أحدها ووقف في قبالة الكاميرا. وحسب ما روى فإنهم يسافرون خارج فيينا إلى قرية «هورن» بإقليم النمسا السفلى لشراء الخراف والعجول من المزارعين ومن ثم يقومون بذبحها إسلاميا.

بدوره أبدى شاب مصري ما يزال طالبا يعمل في أوقات فراغه بمحل تعود ملكيته لوالده امتنانه لما وصفه بسهولة التعامل مع النمساويين عموما لاحترامهم القوانين مما يقلل من الأخذ والرد و«الزعيق» عدا قلة مدمنة تذهب الخمر بعقولها، كما قال.

في ذات السياق أكد بائع يرجع من أصول بلغارية اغتباطه بفرصة العمل بالناشماركت رغم طول اليوم الذي يبدأ من السابعة والنصف صباحا وحتى السابعة والنصف مساء طيلة أيام الأسبوع عدا الأحد مقابل 2.500 يورو في الشهر، مشيرا إلى أن بهاراته التي رصت أمامه في أشكال هندسية جذابة تأتي من مختلف أنحاء العالم معددا مصر والأرجنتين والبرازيل والإكوادور وساحل العاج كأمثلة، مضيفا أن أغلى ما يبيع هو الزعفران الإيراني.

وعند سؤاله عما يفضل هو شخصيا شراؤه من الناشماركت رغم ارتفاع الأسعار مقارنة بالأسواق الأخرى أشار لمحل يبيع ورودا وأزهارا. ولآخر تزين أرففه كميات مختلفة النكهات والعبوات من الشاي والمخبوزات. وردا على سؤال أخير عما يعجبه أكثر بالناشماركت قال: «بسبب حدة المنافسة لتشابه البضائع، يتحمس الباعة في إقناع الزبائن لتذوق معروضاتهم فتكون المحصلة النهائية استمتاعا مجانيا بكمية ليس بالقليلة لأشهى أطعمة»، وتلك حقيقة ذكرها دون تردد و«الشرق الأوسط» تغادر هذه السوق السياحية النمساوية العالمية المميزة.