استقالة مدير عام «بي بي سي» بسبب اتهام خاطئ لسياسي محافظ سابق

بعض الصحف تصف ما يجري بـ«حمام دم».. ومطالبات بإجراء «إصلاح جذري»

مدير الإذاعات في «بي بي سي» تيم ديفي الذي بات مديرا عاما بالوكالة (أ.ف.ب)
TT

جورج إنتويسل المدير العام لهيئة البث البريطاني ضرب الرقم القياسي في أقصر فترة يتربع فيها شخص على عرش «بي بي سي»، إذ قدم أول من أمس استقالته بعد 55 يوما فقط في الوظيفة، بعد نشر تحقيق يتهم خطأ مسؤولا سياسيا سابقا في حزب المحافظين في عهد مارغريت ثاتشر بالاعتداءات الجنسية.

وقال: «قررت أن الشيء الأكثر نزاهة الذي يمكن القيام به هو الاستقالة».

وأضاف إنتويسل، الذي تسلم زمام الأمور في سبتمبر (أيلول) من مارك طومسون، أنه قرر الاستقالة «نظرا إلى كون المدير العام هو أيضا رئيس التحرير والمسؤول في نهاية الأمر عن مضمون» ما تبثه المؤسسة من برامج وأخبار البرامج، وأوضح أن «الأحداث الاستثنائية تماما خلال الأسابيع الماضية أوصلتني إلى نتيجة مفادها أنه يتوجب على (بي بي سي) أن تبحث عن مدير جديد».

وقال إنتويسل (50 عاما) إنه كان ينبغي عدم إذاعة التقرير.

وفي مقابلة مع المخضرم جون هامفريز مقدم برنامج «توداي» على القناة الإذاعية 4 (ريديو فور)، أكد أنه لم يعلم مسبقا بالتقرير. وقال له هامفريز إن ذلك مثير للدهشة، أي أن يكون شخص في مكانتك، وفي ظل الأزمة التي تمر بها «بي بي سي» بخصوص قضية جيمي سافيل أن يسمح ببث ببرنامج «دوا» أن يكون هناك تقص عال المستوى للحقائق.

ولم يحاول إنتويسل التخلص من حدة الأسئلة، وأجاب عليها بشفافية كاملة، وقال إنه كان «خارج» المبنى عندما تقرر بث البرنامج. واقر إنتويسل بأن «تقرير (نيوزنايت) غير مقبول تحريريا».

وذكر في استقالته التي قدمها، وكان يقف إلى جانب كريس باتن، رئيس مجلس أمناء «بي بي سي» أن عليه أن يفعل «شيئا نبيلا» من خلال تنحيه. وقال إن «الأحداث الاستثنائية على مدار الأسابيع القليلة الماضية دفعتني إلى هذه النتيجة، أي أنه يتعين على (بي بي سي) اختيار قائد جديد».

ويتحمل المدير العام مسؤولية فشل مزدوج لبرنامج «نيوزنايت» الذي كان يعتبر رمزا للصحافة التحقيقية، كما أرستها «بي بي سي».

وهذه هي الأزمة الثانية التي يواجهها إنتويسل خلال فترة وجوده القصيرة في عمله الجديد. وقبل أسابيع وجه كثير من الأسئلة للهيئة على إهمالها لأحد شخصياتها التلفزيونية الراحلة، جيمي سافيل المتهم باعتداءاته الجنسية المتكررة على الأطفال.

ومما زاد الطين بلة هو قرارها بعدم بث ما قامت به إحدى محطاتها من تحرٍّ حول الموضوع، وفقدت الهيئة كثيرا من الثقة التي كانت تتمتع بها سابقا، وأثير كثير من الأسئلة حول أنها قد تكون أهملت بتعمد بث الموضوع.

وقدم برنامج «بانوراما» تفاصيل عن حجم المعلومات التي توفرت لفريق برنامج «نيوزنايت» آنذاك.

وقال ميريون جونز، وهو أحد منتجي برنامج «نيوزنايت»، وشارك في إعداد التحقيق، إنه حذر رئيس تحرير البرنامج من أن «بي بي سي» معرضة لخطر الاتهام بإخفاء معلومات إذا لم تبث التقرير.

ونقلت «بي بي سي» عن جونز قوله: «كنت متأكدا أن الموضوع سيظهر بطريقة أو أخرى و(...) ستتهم (بي بي سي) بإخفاء معلومات».

وبثت قناة «إي تي في» المنافسة مقابلات مع نساء ذكرن أن سافيل ارتكب انتهاكات جنسية بحقهن حين كن في الثانية عشرة من العمر، وأن هذا حدث أحيانا بمقر «بي بي سي».

وصرح جورج إنتويسل بأن الفضيحة الجنسية التي تحوم حول أحد أشهر مذيعي التلفزيون والإذاعة في بريطانيا «أمر خطير للغاية» بالنسبة للشبكة. وجرى استدعاؤه قبل أسابيع معدودة لتقديم إفادته أمام لجنة برلمانية مختصة بالإعلام والثقافة والرياضة لتفسير سبب «تهاون» شبكة «بي بي سي» على مدى عقود حيال اتهامات الاعتداء على النساء والأطفال من جانب جيمي سافيل. وعمل مشغل الأغاني والمذيع البارز لأكثر من 4 عقود لدى «بي بي سي»، وتوفي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

ويعتقد كثير من المعلقين أن «بي بي سي» تواجه أزمة حقيقية، بخصوص الثقة والمستوى المهني، بعد أن شكلت نموذجا عالميا للامتياز التحريري.

وأمس، طالب كريس باتن رئيس مجلس أمناء «بي بي سي» بإجراء إصلاح هيكلي جذري وشامل للهيئة، بعد يوم من استقالة مديرها العام. وقال باتن عبر البرنامج السياسي الشهير الذي يقدمه اندرو مار على قناة «بي بي سي» الأولى: «إن مصداقيتنا رهن بقدرتنا على قول الحقيقة». وتابع: «إن كنتم تسألونني إذا كانت (بي بي سي) بحاجة لإعادة هيكلة عميقة لبنيتها التنظيمية، أقول إنها تحتاج إلى ذلك حتما. هذا ما علينا فعله». وأضاف آخر حاكم للمستعمرة البريطانية السابقة، هونغ كونغ: «إذا فشلت فإني على ثقة بأنه سيتم إبلاغي بذلك».

وقال اللورد باتن: «أعتقد أنه يتعين علي حاليا التأكد، لمصلحة دافع رسوم الترخيص والجمهور، أن (بي بي سي) تحكم قبضتها، وأننا صححنا مسارنا».

في حالة جيمي سافيل كانت هناك أدلة دامغة، وعلى الرغم من ذلك فقد قرر عدم بث التحقيق فيها، وفي الحالة الثانية، في قضية اللورد ماكالبين، فقد بثت تحقيقها دون التأكد من أبسط الأمور في العمل المهني، وهذا ما كشفته صحيفة «غارديان»، قائلة إنه قد يكون هناك تشابه في الأسماء.

وقدمت «بي بي سي» اعتذارا «من دون تحفظ» على بثها التحقيق في برنامج «نيوزنايت»، وقال فيه أحد الشهود إنه كان ضحية اعتداء جنسي من قبل مسؤول كبير سابق في حزب المحافظين في منزل للأطفال في السبعينات.

وعلى الرغم من أن المحطة لم تكشف عن اسم المسؤول في برنامجها الأسبوع الماضي، فإن اسم وزير المالية السابق اليستير ماكالبين (لورد مكالبين) كان مثار تداول عبر الإنترنت. وكانت صحيفة «غارديان» أول من أشارت يوم الجمعة إلى اسم هذا السياسي، مع إعرابها عن شكوك حول صدقية شهادة واحدة بحقه.

ولكن مكالبين نفى نفيا قاطعا الادعاءات «الخاطئة تماما، التي تشكل قذفا خطيرا». وندد عضو مجلس اللوردات بـ«جنون وسائل الإعلام»، في حين أعلن محاموه أنهم سيرفعون شكوى ضد كل الذين بثوا هذه المعلومات، وعلى رأسهم «بي بي سي»، حتى ولو لم تكشف اسمه.

وتقدّمت «بي بي سي»، أول من أمس، باعتذار حار عن تقرير بث ضمن برنامجها التلفزيوني الإخباري المسائي «نيوز نايت» أدى إلى اتهام اللورد ماكالبين، رجل الأعمال والسياسي المحافظ البارز، بالتعدي الجنسي على أطفال في بيوت رعاية بشمال إقليم ويلز.

الموقع الإلكتروني لـ«بي بي سي» أورد الاعتذار الصادر «بلا تحفظ» مساء أول من أمس الجمعة في أعقاب تقدّم أحد الضحايا المزعومين، واسمه شتيف ميسهام، باعتذار إلى اللورد الذي تولى لفترة منصب أمين صندوق حزب المحافظين، قائلا إنه لم يعتد عليه. وكان برنامج «نيوز نايت» قد بث مساء 2 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي ادعاءات ميسهام خلال مقابلة معه ضد من وصفه بـ«سياسي محافظ بارز في عقد الثمانينات» من دون أن يسميه. كذلك أعلن الموقع أن «بي بي سي» أوقفت فورا بصورة مؤقتة كل التحقيقات الاستقصائية للبرنامج.

وكان اللورد ماكالبين، من جانبه، قد أكد أن المزاعم بحقه «باطلة كليا والغاية منها الإساءة البالغة»، ومن ثم ذكر محاميه آندرو ريد أن موكله سيرفع دعوى قضائية ضد كل من أقدم على ذكر اسم اللورد وربطه بالادعاءات الكاذبة.

وبعد مثوله قبل أسابيع أمام اللجنة البرلمانية، بدأ الكلام حول إمكانية فقدان إنتويسل لمنصبه جراء العاصفة الإعلامية التي اندلعت بسبب سافيل، وقال أمام اللجنة إنه شعر «بالهول» لدى اكتشافه أن المزاعم ضد سافيل مرت «دون أن تكتشف» طيلة سنوات، على الرغم من أنه لم يكن آنذاك مديرا في الهيئة.

وردا على سؤال ما إذا كانت تلك هي أسوأ أزمة تواجهها «بي بي سي» على الإطلاق، قال إنتويسل: «إنها قضية في غاية الخطورة».

ومنذ ذلك التاريخ وجورج إنتويسل يواجه عاصفة إعلامية لتفسير السبب في إلغاء برنامج «نيوزنايت» تحقيقا في شأن سافيل العام الماضي. وكان مارك طومسون الرئيس التنفيذي الحالي لـ«نيويورك تايمز» مسؤولا عن هيئة الإذاعة البريطانية في ذلك الحين. وقالت بعض التقارير إن طومسون قد يخسر وظيفته هو الآخر مع «نيويورك تايمز»، وهذا ما طالب به بعض كتابها.

وقال إن تحقيقين ستجريهما «بي بي سي»، «لاكتشاف حقيقة» مزاعم سافيل، سوف يوضحان ما إذا كانت توجد «ثقافة» في «بي بي سي» شجعت الأفراد على غض الطرف عن سوء تصرف «نجم» ملحوظ.

ووصفت الشرطة سافيل بأنه «مفترس جنسي»، وبدأت تحقيقا جنائيا بشأن ادعاءات بأنه اعتدى على أكثر من 200 ضحية، من بينهم أطفال في «بي بي سي» ومؤسسات أخرى خلال مسيرته العملية في الشبكة، حيث بدأ في منتصف ستينات القرن الماضي.

ومنحت الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا سافيل لقب «سير»، وكان واحدا من الأسماء الشهيرة في «بي بي سي» وأبرز الشخصيات التلفزيونية، وثارت تساؤلات حول ما إذا كانت هيئة الإذاعة البريطانية قد غضت الطرف عن ممارساته.

ويتوقع أن يتلقى مدير الإذاعات والأوركسترا في «بي بي سي» تيم ديفي الذي بات مديرا عاما بالوكالة تقريرا حول الانحرافات، قد يؤدي إلى توقيع إجراءات تأديبية.

وعكست صحف أمس (الأحد) مدى الخسائر. إذ تحدثت «ميل أون صنداي» عن «حمام دم في الـ(بي بي سي)»، بينما عنونت «صن».. «وداعا للحماقة» في حين تحدث جوناثان ديمبلي، أحد صحافيي «بي بي سي» الأكثر احتراما في صحيفة «أوبزرفر» عن «سفينة جانحة تتجه نحو الصخور».

ويندد مسؤولون سياسيون ووسائل إعلام بالرواتب «الخيالية» لبعض المديرين ومقدمي البرامج المشهورين. كذلك تزيد عاصفة «بي بي سي» من تفاقم المشكلات العميقة للصحافة البريطانية المتهمة في إطار الفضيحة السياسية الإعلامية المدوية المتعلقة بتنصت صحف «التابلويد» على الهواتف، والتي سيقدم تقريره بخصوصها اللورد ليفيسون في نهاية هذا الشهر.