الفنان الإسباني الغريب الأطوار يعود إلى مركز بومبيدو بعد 33 عاما

شاربا سلفادور دالي المعقوفان يؤطران شتاء باريس في معرض استثنائي

TT

إنه الحدث الثقافي الأبرز في نهاية هذا العام الذي شهد تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة في فرنسا. وهو الخبر الذي يستطيع أن يطغى على الأخبار الأخرى، من تدهور شعبية الرئيس الاشتراكي هولاند، إلى إباحة زواج المثليين، مرورا بالخلايا السلفية التي كشفتها الشرطة في جنوب البلاد. لا سحنة تسرق الاهتمام من شاربي سلفادور دالي المعقوفين، ولا قضايا فنية تصرف ترقب الزوار لمعرضه الاستعادي الكبير الذي يفتح أبوابه، في مركز بومبيدو الثقافي، غدا.

200 لوحة وقطعة من أشهر رسومه ومنحوتاته وتجهيزاته والأفلام التي صنعت عنه، ستكون حاضرة بزيتها وقماشها، من ساعته الزرقاء التي يندلق نصفها عن سطح المائدة، وحتى حورياته الطالعات من قلوب الوحوش، وهاتفه القوقعي، وفرسه الخلبية، وفراشاته التي ترتفع فوق القباب، والأريكة الحمراء المنتفخة على هيئة شفتي زنجية. وحسب جان هوبير مارتان، محافظ المعرض، فإن المعروضات تشكل أكبر تجميع لأعمال الفنان الإسباني الذي اشتهر بغرابة الأطوار، منذ معرضه الاستعادي الأخير الذي أقيم، قبل 33 عاما في باريس وفي هذا المكان نفسه. يومها كان دالي لا يزال على قيد الحياة، وقد حضر حفل افتتاح الحدث الذي استقطب 800 ألف زائر، بمعدل 8 آلاف كل يوم. وهو أمر لا يمكن توقع ما يماثله، اليوم، نظرا لتغير الإجراءات الأمنية، مثل تفتيش الزوار قبل الدخول، وتحديد عددهم داخل الصالات بحيث لا يتجاوز رقما معينا. وما زال مارتان، الذي كان في ذلك المعرض البعيد موظفا شابا، يذكر أن دالي ارتدى في حفل الافتتاح ثيابه الغريبة اللافتة للنظر، لكنه كان متحفظا ويرفض أن يبتسم للمصورين ويريد أن يبدو في قمة الجد.

حتى أسلوب العرض تغير وأصبح يستفيد من الإمكانيات الرقمية للتكنولوجيا الجديدة. والهدف من رسم مزار الزوار إفساح أكبر قدر من الحرية لتجوالهم في فضاء القاعات.. تلك الحرية نفسها التي طالما كانت عزيزة على دالي وشكلت عصب حياته وفنه. لقد كان يمتلك مقاليد حياته إلا في مواجهة زوجته غالا، المرأة التي كانت تبرمج له ساعات عمله وتحدد أسعار لوحاته وتتفاوض مع أصحاب صالات العرض، بل وقيل إنها أوصت بتجهيز لوحات تشبه رسوم زوجها وكانت تبصم توقيعه عليها.

وفي محاولة لاستحضار روح الفنان، تستقبل الزوار في مدخل المعرض بيضة عملاقة تدل على الأصول التي تسبق ولادة الكائن، ذلك أن دالي كان قد أعلن، ذات مرة، أنه يتذكر حياته منذ أن كان جنينا في رحم والدته. وهناك صورة فوتوغرافية شهيرة له وهو يتكور على نفسه في وضعية الجنين. أما عند نقطة مغادرة المعرض، فإن آخر ما يراه الزائر هو جمجمة مستوحاة من دماغ الرسام، ذات تلافيف غريبة تزدحم بالصور السوريالية والأحلام والرؤى والاستيهامات والألوان المتضاربة.

يُنقل عن دالي أنه أراد، في سن السادسة، أن يصبح طباخا، وفي سن السابعة أن يكون إمبراطورا مثل نابليون، ثم لم يتوقف طموحه عن التطور ولا تورعت شخصيته عن جنون العظمة. فذلك الطفل الذي رأى النور في مقاطعة كتالونيا الإسبانية، في 11 مايو (أيار) من عام 1904، عاش ملاحقا من هاجس مرت به عائلته قبل ولادته، هو وفاة أخ سابق له كان يدعى سلفادور، أيضا. ولم تتوقف صورة ذلك الشقيق الغائب عن التأثير في كيانه وفي تشكيل مخيلته. إن ثراء مخيلته هو كل ما يملك، باعتباره كان تلميذا متواضعا بين أقرانه، لا تبرز موهبته إلا في درس الرسم. وفي سن الخامسة عشرة عرض لوحاته للمرة الأولى، كما نشر نصوصا، في مجلة المدرسة، عن الفنانين الذين سحرته أعمالهم، أمثال مايكل أنغلو وليوناردو دافنشي وغويا وفيلاسكويز. وفي ما بعد، شد الولد الرحال إلى العاصمة مدريد لكي يدرس الرسم في أكاديميتها الملكية للفنون الجميلة بعد أن نجح في اختبار الدخول. وهناك ارتبط بصداقة مع الشاعر فيدريكو غارسيا لوركا، ومع السينمائي لويس بونويل، وفي ما بعد، تعاون مع هذا الأخير لإخراج فيلم بعنوان «الكلب الأندلسي»، عام 1929.

في تلك السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأُولى، كانت باريس هي قبلة فناني العالم. وقد قصدها دالي، في عام 1926، لكي يزور رساما من بلدياته كان قد سبقه إليها ويدعى بابلو بيكاسو، الفنان الإسباني الكبير الآخر الذي سيكون منافسه. وعندما عاد الفنان الشاب من رحلته الباريسية تعرض للطرد من المدرسة لأنه كان يرفض أن يمتحن المعلمون أعماله. ولم يكن أمامه بعد ذلك سوى الرجوع إلى العاصمة الفرنسية والانضواء تحت راية السورياليين والانخطاف بالملهمة غالا و«اختطافها» من حبيبها السابق الشاعر الفرنسي بول إيلوار والاقتران بها، عام 1934. وعندما قامت الحرب العالمية الثانية سافر دالي وغالا إلى الولايات المتحدة الأميركية، البلد الذي أنجز فيه سلسلة من الأعمال عن الدين وعن القنبلة النووية. وهناك تعاون مع مشاهير من أمثال المخرج ألفريد هتشكوك وعبقري الرسوم المتحركة والت ديزني.

ماذا تعرف الأجيال الجديدة عن سلفادور دالي عدا عن استفزازه؟ إن هناك عشرات الكتب التي صدرت عنه لكن القلة تعرف أنه كان من أشد المدافعين عن استقلالية الفن والفنانين. وحتى ذلك المظهر الاستفزازي الذي عرف به، لم يكن مجانيا، بل كان يخدم أفكاره عن الحرية. ويشير محافظ المعرض الجديد الذي يستمر حتى أواخر مارس (آذار) 2013، إلى أن الفنان كان يتعمد أن يكسر المحظورات ويخرق الأساليب النمطية لكي يصدم المجتمع ويحرض على التفكير ورفض المساومة. وهو لم يكن مهرجا، كما قد يبدو، بل كان فردا ينطوي على الكثير من الذكاء والحساسية ودقة التوقع. ولعل هناك نقطة قاتمة وحيدة في مسيرة دالي هي لقاؤه، في عام 1956، بالجنرال فرانكو وعلاقته الملتبسة بسياسته الرجعية. وقد سبقت غالا زوجها إلى الموت، عام 1982، وعاش يتيما بعدها إلى أن لحق بها بعد ذلك بسبع سنوات وهو في الخامسة والثمانين من العمر.