«راديو بغداد».. أسطوانة جديدة لفوزي العائدي تصدر في باريس

الفنان العراقي خاض تجارب موسيقية وإنسانية وغنى للأرض والسلام

فوزي العائدي مع فرقته
TT

منذ 40 سنة، وفوزي العائدي، هذا العراقي البصري المسكون بكل إيقاعات العالم، يحمل عوده ويتجول بين مسارح باريس لينشد كلاما يكتبه هو، أو نصوصا قديمة، أو قصائد لشعراء عرب وجد فيها هواه. وما أسطوانته الجديدة «راديو بغداد»، الصادرة في باريس، سوى تتويج للخبرات التي حصّلها العائدي من خلال مخالطته فنانين من كل البلدان، التقى بهم في المهرجانات أو أصغى لموسيقاهم الآتية من أفريقيا أو الهند أو الخليج أو أميركا. إنها الأذن المدربة حين تسمع وتطرب وتهضم ثم تبدع نوعها الخاص.

ومن تابع مسيرة العائدي منذ أن وصل إلى باريس شابا يافعا وحتى اكتهل فيها، يستطيع وهو يستمع إلى «راديو بغداد»، أن يستشعر النضج الذي بلغه الفنان وقدرته على التلاعب، لا باللحن فحسب؛ بل بأسلوب الغناء وطريقة نطق العبارات، صعودا ونزولا، بل بشكل لولبي أحيانا، مثل ساحر سعيد بمهاراته وهو يستعرضها بعفوية واقتدار. إن إيقاعاته السريعة والراقصة تنطوي على حنين مستتر وتنبع من أصالة لا تخطئها الأذن.

في «راديو بغداد» لا يستحضر فوزي العائدي عاصمة وطنه الجريح فحسب، بل تحضر إيقاعات البصرة، مسقط رأسه، وألوان كازابلانكا، وأمطار المنفى، وغزل العاشق بمليكته حلوة الحلوات، والسلامات المرسلة مع المسافر للوطن، ومناجاة الصوفي لربه. فمن شعر الإذاعي اللبناني الشهير الراحل إدوار طربيه، يغني العائدي: «أطير أليك يا ربي، على قيثارة الحب، بأوتار قد انتزعت، شرايينا من القلب».

فوزي، الذي فات والديه أن يدونا تاريخ ميلاده، يقدم نفسه للجمهور بأنه «ولد في العراق بين مطرتين كبيرتين». وفي حين كانت الموسيقى تعتبر من الكماليات في منزل العائلة، فقد تعلق الولد بها، منذ أن سمع معلما في المدرسة يعزف على العود. وفي سن الرابعة عشرة تمكن من إقناع أبيه بأن يصعد إلى بغداد ليدرس في معهد الفنون الجميلة. ولعل الأب وافق لأن القصيد والألحان هما جزء أساسي من تركيبة الفرد البصري، أو أن رغبة الابن كانت بمثابة تجسيد لحلم شخصي يتحفظ عليه الأب ولا يبوح به. لقد نجح التلميذ في اختبار الدخول إلى المعهد لكن المشرفين فرضوا عليه أن يتعلم العزف على الناي، على يد مدرس تشيكي، لا على العود الذي يهوى. لقد كان البلد في حاجة إلى عازفي ناي في فرقته السيمفونية.

في تلك الأيام البغدادية المباركة، كان طلبة المعاهد والجامعة يتجولون في المقاهي وهم يتأبطون كتبا مترجمة في بيروت لسارتر وتولستوي وكولن ولسون ودواوين لرامبو وفيرلين وإليوت. وكان الطالب في معهد الفنون يدرس الموسيقى الشرقية على أصولها، لكنه يستمع، من أساتذته الذين درسوا في أوروبا، إلى أحاديث مطولة عن هاندل وباخ وموزارت وكورساكوف، وقد يستعير أسطوانتاهم من هؤلاء أو من مكتبات المراكز الثقافية الأجنبية. وقد تلقى فوزي «طراطيش» من كل ذاك واستطاع أن ينال موافقة مدير المعهد على أن يدرس، بشكل مواز، الغناء والعزف على العود. وهو قد أنهى دراسته، عام 1986، أي مع وصول البعث إلى السلطة، وكان ترتيبه الأول، الأمر الذي يؤهله لبعثة دراسية. لكن من يسمح له بالسفر؟

في موقعه الإلكتروني، يروي الفنان الذي كان قد عثر على عمل في إذاعة بغداد، أنه التقى صدام حسين هناك، بالمصادفة، محاطا بحراسه، ونجح في التحدث إليه قائلا إن قانون منع السفر يحول بينه وبين التمتع بالبعثة الدراسية المخصصة له في بولونيا. ووعد صدام بالمساعدة، لكن العائدي تلقى، بعد أسبوع، أمرا بالالتحاق بالخدمة العسكرية. وهكذا كان، وحال انتهاء الخدمة قرر الرحيل لمواصلة الدراسة. ولكن أين يتجه؟ بالنسبة لعازف ناي هناك مدرستان؛ واحدة في ألمانيا، والثانية في فرنسا. وقد مال إلى الخيار الثاني، ذلك أن الشاب البصري كان مغرما بأشعار رامبو وفيرلين. وفي السادس من سبتمبر (أيلول) 1971، وصل إلى باريس واعتبر ذلك التاريخ بمثابة عيد ميلاده الفني. وفي عاصمة الفنون درس العائدي في المعهد الوطني في ضاحية «بولون» وحصل، بعد 5 سنوات، على الجائزة الأولى في الناي، والجائزة الثانية في موسيقى الحجرة. ولم يعد في الإمكان إيقاف القطار المنطلق.

إنه يغني ويعزف على العود والناي، اليوم، بمرافقة 5 فنانين من جنسيات مختلفة. وقد استهواه، منذ البداية، ما كان يقدمه فنانون من أمثال ليو فيري وجورج براسانز وليونار كوهين. هذا ليس فنا فحسب؛ بل أسلوب عيش والتزام إنساني من طراز رفيع. ولهذا وجد الشاب الآتي من العراق مكانا له في فرقة من الموسيقيين الشباب الذين ينشدون السلام. ففي قرارة نفسه، لم يكن راغبا في الالتحاق بفرقة سيمفونية كلاسيكية. لقد كان دؤوبا ومخلصا لفنه واستطاع أن يطلق عدة أسطوانات لاقت أصداء طيبة، وخاض تجارب في الجاز الشرقي وفي المزاوجة بين موسيقى الشعوب، وغنى للأرض، أمّ الجميع. ومن بين التجارب التي خاضها تأسيس فريق «خمسة» مع الممثل غي جاكيه والخطاط حسن المسعودي، لنشر الثقافة العربية من خلال عروض فنية منوعة يتداخل فيها المرئي بالمسموع. أما «راديو بغداد» فقد صدرت عن معهد العالم العربي في باريس ومن توزيع شركة «هارمونيا موندي».

وبفضل إقامته الطويلة في فرنسا وإلمامه بثقافتها، نجح في توصيل لون مستحدث من الفن الشرقي إلى المستمع الأوروبي، من خلال مشاركاته في عشرات المهرجانات الموسيقية. وبالسماحة التي عرف بها أبناء البصرة، المدينة التي كانت وتبقى «ثغر العراق البسّام»، حمل فوزي رسالة محبة ومتعة وحضارة وسلام إلى كل أولئك الذين استمعوا إليه وصفقوا لعروضه المتتالية.