محاولات فنية لتقديم «ما لا يرى»

الروحانية وعالمنا في أعمال 5 فنانين من بلدان مختلفة

«حجر وفيديو» للفنانة ميشال روفنر
TT

نظم مشروع «أي. إي»، المختص بالفن المعاصر، وخاصة الفنون الصينية والآسيوية، ابتداء من الرابع عشر من هذا الشهر حتى الخامس والعشرين منه، معرضا فنيا في العاصمة الفرنسية بعنوان «فقد في الفردوس»، وشارك فيه خمسة فنانين ينحدرون من أصول مختلفة: إيران، إندونيسيا، إسرائيل، وباكستان، قدموا عشرين عملا عالجت موضوع الروحانية، كل حسب رؤيته وخلفيته الاجتماعية والدينية، وهم رضا أراميش، إيراني مقيم في المملكة المتحدة، وشيزاد داود، من أصول باكستانية وهندية وآيرلندية وبريطانية، وإدريس خان، بريطاني من أصول باكستانية، وأرياندهيتا براموهندرا، إندونيسيا، وميشال روفنر، إسرائيلية تعيش في الولايات المتحدة.

في أعماله الفوتوغرافية المعروضة، يستند الفنان الإيراني أراميش إلى التغطيات الصحافية لأحداث دولية عاصفة شهدها العالم من حرب فيتنام في ستينات القرن الماضي حتى الآن، ليعكس التعارض التراجيدي بين الجمال والوحشية، كاشفا عن عبثية وعدم جدوى تلك الأحداث. أما في منحوتاته، التي تجسد ضحايا العنف والتعصب في عالمنا المعاصر، فيبدو أراميش متأثرا إلى حد كبير بالنحت الإسباني في القرن السابع عشر، وخاصة في رموزه الدينية، وكأنه يريد أن يقول إن الضحايا هم أنفسهم مهما اختلف العرق أو الدين والزمن أيضا.

وكان أراميش قد عالج الثيمة نفسها في معرضه السابق في نيويورك المعنون «المقدس حين يصير واقعا»، عائدا إلى إسبانيا في القرن السابع عشر، حين كان رعاة الفن من رجالات الدين يضغطون على الرسامين والنحاتين من أجل «إضفاء الحياة على المقدس» لتكريس التعاليم المسيحية، والاقتداء بالقديسين. وقاد ذلك إلى اضطهاد عشرات الرسامين والنحاتين. ونجد في أعمال أراميش أيضا شهادات، وقصاصات صحافية من تاريخ العنف المعاصر، وخاصة في الجزائر وفيتنام وكوريا: رجال مهانون، عراة، تنعكس نظرات الذل الإنساني في عيونهم المحدقة في اللاشيء. إنه التاريخ يعيد نفسه في كل زمان ومكان.

أما شيزاد داود فيعود إلى التاريخ أيضا، وخاصة إلى القرن الثاني عشر، مستلهما قصيدة «منطق الطير» للشيخ فريد الدين العطار النيسابوري، وهي منظومة شعرية صوفية رمزية، فاق عدد أبياتها 4.600 بيت، محورها رحلة طويلة تقوم بها الطيور المختلفة بقيادة الهدهد بحثا عن سلطان لها هو السيمرغ ليخلصها من الشقاء والظلم اللذين تعاني منهما، ليعكسها على عالمنا المعاصر. في عمل داود «جواهر أبتور»، نرى طيرا معلقا بين أطواق من النيون المشع، وكأنه يصارع للانطلاق من غير جدوى من هذا العالم اللامبالي، الغرق بزخرفته وأضوائه الاصطناعية. ويستخدم داود في أعمال أخرى تركيبات من النيون والأنسجة الريفية للإيحاء بفضاء روحاني وأرضي أيضا، يختلط فيه، أو يتصارع فيه، الشعر والنور والإيروتيكية أيضا. يقول عن أعماله: «كل فني هو محاولة لتقديم الذي لا يرى، عبر كل هذه الطبقات والرموز، الأرقام والاستعارات، والمجازات والتمثيل التصويري. مثل جلال الدين الرومي، أرى أنا أن هذه الحقائق تتجاوز أي ثقافة معينة، أو أي وجهات نظر. إنها تشير إلى تاريخنا وأساطيرنا المشتركة».

ويختلف الفنان أرياندهيتا براموهندرا عن زميليه في توجهه المباشر نحو التاريخ المعاصر، إذ تجسد منحوتاته وكذلك رسوماته، التي يستخدم فيها فحم الخشب على القماش، بحثه عن الهوية كمسيحي يعيش في مجتمع أغلبيته مسلمة (إندونيسيا)، وتساؤله عن دور الفرد عموما في المجتمعات الحديثة. في لوحته «لا أرى شيطانا»، يعكس براموهندرا مثل هذا التصور، إذ يرسم نفسه معصوب العينين، مرتديا زيا كنسيا. لكنه، كما يقول، «لا يشير إلى عزلة المسيحيين في المجتمع الإندونيسي المسلم، وإنما إلى تأكيد الهوية! هو أيضا مشغول بالعلاقة بين العلم والدين، فتقدم العلم والتكنولوجيا، كما يضيف، كشف عن وجود الكون ومحتوياته، بينما تحاول الكنيسة أن تحافظ على تعاليمها التي ظلت متمسكة بها لقرون. إني أحاول بأعمالي أن أجعل البشر يتأملون بجوهر الأسئلة المطروحة أمامهم، وكيف يستخدمونها لإيجاد معنى لحيواتهم».

أما إدريس خان، الباكستاني الأصل، فهو يستخدم التصوير الرقمي (ديجيتال) في تحويل ودمج الصورة بالنص. إنه يطلي لوحته بمقاطع معروفة من سيمفونيات موسيقية، وصحف أو كتب، خالقا بذلك تركيبات موسيقية أو خطية معقدة؛ ففي عمله «الفردوس المفقود»، الذي اتخذ عنوانا للمعرض - وهو أصلا ملحمة شعرية للشاعر الإنجليزي جون ملتون - يركب خان عدة صور فوتوغرافية على الألمنيوم، والخلفية مقاطع من قصيدة ملتون، مجسدا بذلك القوى الإبداعية للفنان، لكن المقيدة، والمعذبة دائما بالشك واليأس.

وفي عمله النحتي «ياسين» يستلهم خان رمي الجمرات باعتباره من الشعائر الرئيسية في الحج. وهو يعتبر ذلك، رغم أنه طقس جماعي ينخرط فيه الملايين، عملا فرديا إلى حد كبير، إذا يواجه الإنسان دواخله في هذه اللحظة وصولا إلى مرحلة تطهير النفس من كل الرواسب غير النقية في أعماقه. ولكي يجسد خان هذه الفكرة، أزال كل شيء خارجي، بما فيها الجدران، مركزا فقط على مكان تجمع الجمرات. وتشارك الفنانة الإسرائيلية ميشال روفنر زميلها خان الاتجاه نفسه، فهي تستخدم المواد الخام، مثل الصخور أو الكتب، ثم تدمجها مع بعضها البعض لتمنحها «ثقلا عاطفيا». إنها، مثل خان أيضا تتجه مباشرة إلى الواقع لتسائله بحثا عن معنى ربما يكون مخبوءا تحت سطحه، لكنها تمحو كل التفاصيل التي يمكن أن تدل على مكان ما، أو زمان ما، وحتى على هوية معينة. من هنا تكسب أعمالها طابعا مطلقا يشير إلى أي فضاء إنساني.

تقول عن أعمالها: «لا أحاول أن أتجنب الواقع، بل أريد أن أغيره فقط، أو أعيد تنظيمه لأجعله واقعا آخر. إني أعمل على الحجر لأنني أريد أن أوصل خط الزمن إلى بدايات الكتابة، وبدايات الرسم.. إني أفكر بتلك اللحظة التي كان فيها هناك شخص في النقطة الأبعد من الزمن، لكنه ترك بصماته على الصخور علامة أبدية».