رحيل الموسيقار عمار الشريعي.. طه حسين الموسيقى العربية

علي الحجار: الشريعي عبد الوهاب عصره.. ومدحت صالح يبكي فراقه.. وبكر: ألحانه ستبقى حية في وجداننا

عمار الشريعي
TT

طوى الموسيقار عمار الشريعي نوتته الموسيقية ورحل عن عالمنا، صباح أمس، عن عمر يناهز 64 عاما، بعد صراع طويل مع المرض، حيث كان يعاني منذ فترة من متاعب في القلب، وكان ينتظر أن تجرى له عملية زراعة قلب لكن القدر لم يمهله لإجراء هذه العملية، ليرحل صاحب الإبداعات الموسيقية الخالدة في عالم الغناء، وأيضا قبل أن يضع كثيرا من الموسيقى لأعمال سينمائية وتلفزيونية مهمة كان مخرجوها ينتظرون خروجه من المستشفى لاستكمالها، ومنها فيلم «تراللي» للمخرج حسني صالح.

كانت ألحان عمار علي محمد إبراهيم علي الشريعي المعروف بـ«عمار الشريعي» سمة مميزة لكثير من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والإذاعية والمسرحيات، وينسب له الفضل في إحداث حالة من التجديد في موسيقى الدراما التلفزيونية، واستحداث نغمات جديدة يغلب عليها الشجن وتدخل مباشرة إلى قلب المستمع، ويبدو أن طفولته ساهمت بشكل كبير في تكوينه الفني، حيث ولد كفيف البصر عام 1948 في مدينة سمالوط بمحافظة المنيا، وعشق الموسيقى من والدته التي كانت تحب أن تدندن كثيرا مع نفسها وأصدقائها، وكان عمار يصفها بأنها «فولكلور متنقل»، وذلك على الرغم من أن عائلته ليست فنية ولم يحترف أي من أفرادها الغناء أو الموسيقى، وعندما أخبر المقربين منه بأنه يود تعلم الموسيقى، شعروا بأنه ليس طفلا عاديا وأن هناك موهبة ما بداخله، لذا لم تتردد عائلته في إلحاقه ببرنامج مكثف أعدته وزارة التربية والتعليم خصيصا للطلبة المكفوفين الراغبين في دراسة الموسيقى، وفاجأ الشريعي من حوله عندما عزف على البيانو وعمره 3 سنوات لحن أغنية «يا دنيا اجري بينا»، ولم يكتف الشريعي بالمواد التي درسها بل بمجهوده الشخصي أخبر أساتذته أنه يريد تعلم العزف على آلة العود، ثم احترف البيانو والأكورديون والأورج، وسط ذهول من حوله.

وبعد تخرج الموسيقار الراحل في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة عين شمس عمل في ملهى «رمسيس الهرم» كعازف أكورديون بإحدى الفرق الموسيقية وكان عمره وقتها لم يتجاوز 24 ربيعا، مما تسبب في مقاطعة والدته له لأنه من عائلة صعيدية، وحصل الشريعي وقتها على أول أجر في مشواره الفني، وكان 99 قرشا (أقل من جنيه مصري واحد)، ثم تحول إلى آلة الأورج، حيث بزغ نجمه فيها كأحد أبرع عازفي جيله، ثم اتجه بعد ذلك إلى التلحين والتأليف الموسيقي، وفي الوقت نفسه كان شغوفا دائما بالدراسة، حيث حصل على 7 رسائل ماجستير و3 رسائل دكتوراه.

ووضع الشريعي الشهير بـ«غواص في بحر النغم» كثيرا من التترات الغنائية وأغاني المسلسلات التلفزيونية والإذاعية، ومنها السيرة الهلالية بجزأيها الأول والثاني و«جحا المصري» من بطولة النجم يحيى الفخراني، و«ليلة القبض على فاطمة»، و«بابا عبده»، و«اغتيال شمس»، و«طائر الأحلام»، و«صيام صيام»، «وقال البحر» للراحل أسامة أنور عكاشة، «و«الدكتور محمد وإخواته البنات» و«عصفور النار» عام 1986، والجزء الأول من مسلسل «أبو العلا البشري» للراحل محمود مرسي و«الراية البيضا»، و«سوق العصر»، و«عمرو بن العاص» و«عفاريت السيالة» و«الرحايا» و«شيخ العرب همام» وغيرها من الأعمال التلفزيونية.

كما قدم الشريعي للسينما تترات وأغاني خالدة، منها أغاني فيلم «البريء» و«حب في الزنزانة» و«أرجوك أعطني هذا الدواء» و«أيام في الحلال» و«آه يا بلد» و«كتيبة الإعدام» و«يوم الكرامة» و«حليم».

عبقرية الموسيقار الراحل لم تقتصر على التأليف الموسيقي فقط، بل امتدت إلى أنه كان ماهرا في التكنولوجيا، حيث تعاون مع شركة «ياماها» اليابانية في استنباط ثلاثة أرباع التون من الآلات الإلكترونية، وساهم أيضا مع مؤسسة «دانسنغ دوتس» (Dancing Dots) الأميركية في إنتاج برنامج «جود فيل» (Good Feel)، الذي يقدم نوتة موسيقية بطريقة برايل للمكفوفين.

ونال الشريعي في مشوار حياته الفني الكثير من الجوائز العربية والدولية حيث نال عام 1986 جائزة مهرجان «فالنسيا»، ونال عام 1989 جائزة مهرجان فيفييه بسويسرا، إضافة إلى جوائز وتكريمات من المركز الكاثوليكي للسينما وجمعية النقاد والكتاب وجائزة الدولة للتفوق في الفنون وأيضا جائزة الحصان الذهبي لأحسن ملحن في الشرق الأوسط لمدة 17 عاما متتالية، وجائزة السلطان قابوس بن سعيد ملك سلطنة عمان، وأيضا تكريم وجائزة خاصة من العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين.

وجاء خبر رحيل عمار الشريعي بمثابة الصدمة لكثير من الفنانين والمطربين الذين كانوا يأملون في شفائه، وفي مقدمتهم الفنان علي الحجار الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد استيقظت على ذلك الخبر الأليم ولم أصدق الخبر في البداية وتمنيت أن يكون مجرد شائعة، لكنه القدر اختار ولا أحد يقف أمام مشيئة الله»، مشيرا إلى أن تعلم من الشريعي كثيرا من الأمور التي أفادته في مشواره الغنائي وأنه صاحب فضل كبير عليه، حيث علّمه أن لا يسرف في استخدام الحليات الغنائية، وأن يتعايش مع كلمات الأغنية.

وأضاف الحجار أن عمار الشريعي له قيمة عظيمة في عالم التلحين، قائلا: «أعتبره بمثابة عبد الوهاب عصره، لأنه منذ أن بدأ عمله بالتلحين في منتصف السبعينات من القرن الماضي وحتى الآن أنجبت مصر والعالم العربي كثيرا من الملحنين الموهوبين جدا والموهوبين فقط، الذين استطاع كثير منهم تحقيق شهرة واسعة، واشتهرت أسماؤهم في سماء الفن واستطاعوا أن يصنعوا كثيرا من الأعمال التي انتشرت بشكل كبير في وقتها، حتى إننا مرت علينا فترات كنا نعيش عصر فلان من الملحنين، ثم تتوارى أعماله حتى تختفي، ويأتي عصر فلان آخر ليتكرر نفس الشيء معهم حتى هذه اللحظة، ما عدا بعض الملحنين الذين لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، ويبقى اسم عمار الشريعي، وتعيش أعماله التي استمتع الناس بها، وتعيش نغماتها معهم حتى الآن».

بينما بكى المطرب مدحت صالح بعد رحيل عمار الشريعي وقال: «إننا في ذلك الوقت كنا نحتاج لصوت وموسيقى عمار الشريعي في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها مصر»، وإنه سبق أن تعاون معه في أغانٍ يعتز جدا بها ومنها «المليونيرات» وتتر مسلسل «شرف فتح الباب» و«القاهرة 2000» و«أبو العلا البشري»، بينما قال الشاعر أيمن بهجت قمر إنه في غاية الحزن على فراق عمار الشريعي الذي يعتبره واحدا من الموسيقيين الكبار الذين جعلوه يحب الفن، وأضاف قمر: «هو ده زمن أي فنان حقيقي يستحمله؟! وداعا يا أستاذ عمار».

وقال الموسيقار حلمي بكر إن مصر فقدت واحدا من أهم وأبرز صناع الموسيقي في مصر والوطن العربي، وكأنه يرفض أن يعيش في زمن ينحدر فيه الفن إلى مستوى مؤسف، فعمار الشريعي ظاهرة فنية لا تتكرر وتفوق على كثير من المبصرين بألحانه وموسيقاه الباقية التي تنم عن خيال شديد الثراء ومشاعر صافية، وطيبة قلب وصدق في القول والعمل، ويغلف ذلك كله بخفة ظل تبهر من حوله فهو يعتبر «طه حسين الموسيقى العربية».

ويضيف حلمي بكر: «عمار الشريعي يجعلك ترى انفعالات الأبطال وتأثرهم بالمشاهد الدرامية، لذا نجحت جميع سيمفونياته الموسيقية التي وضعها في مسلسلات درامية ولاقت نجاحا كبيرا بسبب موسيقاه»، ولفت بكر إلى أن الموسيقار الكبير تعامل معه كثيرا وتتلمذ على يديه وعلى أيدي عباقرة النغم أمثال بليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل.. «رحم الله عمار الشريعي، فألحانه ستظل باقية في وجداننا».

ونعت جبهة الإبداع المصري الفنان الراحل، حيث أصدرت بيانا قالت فيه: «تنعي جبهة الإبداع المصري إلى مصر كلها واحدا من أبنائها الذين ساهموا في صناعة إبداع مصري خالص عبر عن الإنسان والوطن، واحدا من صُناع وعي ثورتها الذين ساهموا بإبداعهم ونضالهم في دعم مسيرتها.. إنه الفنان الكبير عمار الشريعي الذي وافته المنية صباح أمس الجمعة.

ولا يسعنا إلا أن نسأل الله جل في علاه أن ينزله من منازل رحماته بقدر ما كانت أعماله ترتقي بالأرواح وتحفز العقول، اللهم آجرنا في مصابنا وأخلف كل أهله وأصدقائه وتلامذته ومحبيه ومصر كلها في مصابها خيرا».

أما المطربة أمال ماهر التي تعد أحد اكتشافات المطرب الراحل، فقد قالت في نبرة حزينة: «وداعا عمار الشريعي الذي أضاف لي الكثير ولا أستطيع يوما أن أنسى فضله فهو الذي قدمني إلى عالم الغناء في بداية مشوار الفني، وكنت أتمنى أن أتعاون معه في ألبومي المقبل، لكن القدر لم يمهلنا لذلك».

ونعى المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية الدكتور ياسر علي الفنان الشريعي قائلا على صفحته لرسمية بموقع «فيس بوك»: «أسأل الله سبحانه وتعالى للفنان المصري الكبير عمار الشريعي المغفرة والرحمة ولأهله الصبر والسلوان».

كما نعى الدكتور سعد الكتاتني، رئيس حزب الحرية والعدالة (الإخوان المسلمين) الفنان عمار الشريعي، وقال في بيان له: «أنعى إلى الشعب المصري الفنان عمار الشريعي. أسأل الله له المغفرة والرحمة ولأهله الصبر والسلوان. لا يمكن أن ننسى له مواقفه الوطنية في مساندة ثورة 25 يناير».