انتشار برامج الكومبيوتر للتشخيص الطبي في أميركا

رغم مهارة الكومبيوتر في تشخيص الأمراض عادة ما يبرع الأطباء في تشخيص الأنماط المتشابهة

متابعة الدكتور ذاليوال أثناء التشخيص أشبه بمشاهدة ستيفن سبيلبيرغ في إخراج أحد أفلامه أو روي ماكلروي في ملعب الغولف
TT

كان الرجل على خشبة المسرح أمام 600 مشاهد، كان التوتر يزداد طوال 45 دقيقة. في النهاية حانت لحظة الحقيقة وران على القاعة صمت مطبق مع حالة من الترقب.

في النهاية تحدث الرجل: «إنه سرطان الغدد الليمفاوية مع متلازمة البلعمة الثانوية»، فانفجر الجمهور بالتصفيق.

يوقر المهنيون في كل مجال نجومهم، وفي الطب يحتل أفضل خبراء تشخيص الأمراض مكانة كبيرة، ويعتبر الدكتور غوربريت ذاليوال، 39 عاما، الأستاذ المساعد للطب الإكلينيكي في جامعة كاليفورنيا الأميركية في سان فرانسيسكو، أحد أبرز العاملين في هذا المجال اليوم.

بدأ الحالة التي حضرها الدكتور ذاليوال، في مؤتمر طبي العام الماضي بمعلومات يمكن أن تصف مئات الأمراض إصابة المرضي بالحمى المتقطعة وآلام المفاصل وفقد الشهية والوزن.

متابعة الدكتور ذاليوال أثناء التشخيص أشبه بمشاهدة ستيفن سبيلبيرغ في إخراج أحد أفلامه أو روي ماكلروي في ملعب الغولف. قدمت له المعلومات واحدة تلو الأخرى - الفحص المعملي وتصوير وفحص أنسجة الجسد. اعتمد ذاليوال خلال عملية التشخيص على معرفة موسوعية بآلاف المتلازمات. وقد أزال بمهارة كل الأشياء المضللة في الوقت الذي التقط الأدلة التي ربما يكون الآخرون قد تجاهلوها، وتدريجيا توصل إلى التشخيص الدقيق.

ما مدى موهبة الدكتور ذاليوال؟ وبشكل أكثر تحديدا، ما الذي يستطع فعله ولا يستطيع الحاسب القيام به؟ هل سيتمكن الحاسب من الأداء بنفس المهارة التي لم تقم على كم واسع من المعرفة فحسب بل على كثير من العوامل غير الملموسة مثل الحدس؟

يتسم تاريخ التشخصيات المعتمدة على الحاسب بالغنى والثراء. ففي السبعينات طور الباحثون في جامعة بتسبيرغ برنامجا لتشخيص المشكلات المعقدة في الطب الداخلي العام، ذلك المشروع الذي نتج عنه برنامج تجاري يدعى كويك ميديكال رفرنس. كما تسعى مستشفى ماساشوستس العام منذ الثمانينات إلى تطوير وتنقية برنامج دي إكس بلان، الذي يقدم قائمة تفصيلية بالتشخيصات السريرية من عدة أعراض وبيانات المعمل.

وكانت شركة «آي بي إم» قد تمكنت من تحقيق إنجاز العام الماضي ببرنامجها «واتسون»، القادر على الإجابة على الأسئلة، الذي يستخدم في الوقت الراهن في برنامج واتسون للرعاية. وتتشابه طريقة الدكتور ذاليوال التشخيصية مع مشروع آخر لشركة «آي بي إم»، برنامج شطرنج «بلو ديب»، الذي تفوق على غاري كاسباروف، بطل العالم في الشطرنج في ذلك، عام 1996، لتحقق انتصارا واضحا في مسيرة الحاسبات إلى النطاق الإنساني.

وعلى الرغم من افتقادها إلى الإدراك والحدس الإنساني، يمتلك ديب بلو ملايين الحركات التي تم تخزينها والقادرة على تحليل الكثير من التحركات في ثانية واحدة، ويجري الدكتور ذاليوال بنفس التشخيص لكن بسرعة بشرية.

ومنذ التحاقه بكلية الطب، كان ذاليوال قارئا نهما لتقارير الحالات في الدوريات الطبية، ومراجع الحالات من المستشفيات الأخرى. ونادرا ما يستخدم أثناء عمله برنامج قائمة الفحص التشخيصي الذي يدعى إيزابيل، كي يتأكد من أنه لم ينس شيئا. لكن البرنامج لم يقدم حتى الآن أي تشخيص غاب عن بال ذاليوال.

يستقبل الدكتور ذاليوال عادة الحالات التي يواجه فيها الأطباء مجموعة من الأعراض المتداخلة. وقد عرضت عليه أثناء المؤتمر الطبي، حالة صعبة على نحو يثير الحنق ومُنح 45 دقيقة لحلها. كانت الحالة عملا طبيا صعبا، وازداد الأطباء الذين كانوا بين الحضور توترا مع زيادة غموض المعلومات واستبعاد كل التقييمات التي كانوا يفكرون فيها، وبعد تلقي ومعالجة عشرات المعلومات كان على ذاليوال أن يأتي بالتشخيص، وفي الأغلب يكون التوفيق حليف ذاليوال أكثر من الفشل.

عندما يبدأ الدكتور ذاليوال في تشخيص حالة صعبة أمام جمهور يعرض عملية تفكيره، بهدف رفع مكانة التفكير. ويعتقد أن هذا سيصبح أكثر أهمية لأن الأطباء يتم تقييمهم وفق قدرتهم على وصف الدواء المناسب للمريض أو إجراء اختبارات معينة.

ومن دون مثل هذه التأكيد ربما يتجاهل الأطباء وبرامج التدريب أهمية وجود أطباء أذكياء قادرين على التفكير، لأن التفكير في الطب بحسب الدكتور ذاليوال أهم إجراء ينبغي القيام به.

وأضاف أن التقدم في عملية التشخيص ليست في تبين ما إذا كان الشخص مصابا بمرض نادر مقابل آخر. والتحسن في عملية التشخيص مهم لصحة وسلامة المريض مثل خفض أخطاء التداوي أو إزالة الجراحة الموضعية الخاطئة.

التشخيص الإكلينيكي الدقيق يقوم الدكتور ذاليوال بنصف عمله السريري في أجنحة المركز الطبي بمستشفى سان فرانسيسكو وقضى النصف الآخر في قسم الطوارئ حيث تظهر الألغاز الكثيرة عادة في الكثير من الأوقات.

بعد ظهيرة أحد الأيام الأخيرة في غرفة الطوارئ كان يعالج مريضا في السادسة والستين من العمر الذي كان غير متزن عقليا وغير متعاون. وشكا الرجل من ألم في الورك لكن عمل العمل الروتيني كشف أن كليتيه لم تكن تعمل وكان البوتاسيوم يرتفع إلى مستويات خطرة، ويضعه في خطر الإصابة بمرض عدم انتظام ضربات القلب الذي يمكن أن يؤدي إلى وفاته - ربما خلال ساعات وأظهرت الموجات فوق الصوتية أن مثانته كانت مسدودة. كان هناك عمل ينبغي القيام به من تفريغ المثانة وتصحيح مستوى البوتاسيوم. كان من السهل استبعاد ألم الورك كنوع من الإلهاء، إذ لم يناسب الموقف، لكن غريزة الدكتور ذاليوال الالتزام بالقاعدة القديمة التي ينبغي على الأطباء للوصول إلى تشخيص موحد. وفي النهاية، تم تعقب كل شيء - بما في ذلك ألم الورك - إلى ألم البروستاتا النقيلي.

وقال الدكتور ذاليوال: «يمكن لذلك أن يتغير سريعا في غرفة الطوارئ. أحد التحديات لهذا، سواء استخدمت حاسبا أو عقلك، هو تحديد الأعراض من الشائعات». أغلب الوقت يساعده حدسه في تبين الاختلافات بين الأعراض المتشابهة.

قد يتخذ خبير التشخيص السريري مثل ذاليوال القرار من دون القدرة على أن يفسر ما يدور في عقله، حيث ينتقي وعيه المهم من غير المهم.

وعلى الرغم من المهارة التي أبرزها الكومبيوتر في تشخيص عدد من الأمراض، عادة ما يبرع الأفراد في تشخيص الأنماط المتشابهة. ولاتخاذ القرار ينبغي على الأطباء المزج بين المنطق والمعرفة بغرائزهم للأنماط المتقابلة.

وعبر الصالة كانت هناك حالة أخرى، لرجل كان في عمر الخامسة والستين، وصل مرتبكا ومحموما، وبثور على فخذه، وشك الدكتور ذاليوال في إصابته بالتهاب الدماغ الهربسي لكن البثور كانت تبدو كبيرة قليلا وفي مواضع غير معتادة بالنسبة لمثل هذا التشخيص.

استقرت حالة الرجل نسبيا لم يقدم طبيب تشخيصا محددا، وواصل الدكتور ذاليوال متابعة الحالة، وقال: «في متابعة الحالة لمعرفة أننا لم نفوت شيئا أحد الملامح المهمة للحالة، وكان عدم الوصول إلى تشخيص نهائي أمرا جيدا، فعدم الوصول إلى نتيجة جانب كبير من العلاج».

برنامج إيزابيل التشخيصي الذي يستخدمه الدكتور ذاليوال في بعض الأحيان اخترعه جاسون مودي، المدير المالي الأسبق في لندن الذي سماه على اسم ابنته، التي أصيبت في سن الثالثة بالجدري المائي وفشل الأطباء في اكتشاف مزيد من التعقيدات الخطرة - التهاب اللفافة الناخر، عدوى آكلة اللحم، وعندما تم اكتشاف المرض كانت إيزابيل قد فقدت قدر كبيرا من جلدها، إلى حد أنها لا تزال تجري جراحة تجميلية وهي في سن السابعة عشرة.

وأشار مودي إلى أنه على الرغم من أن شخصا ما مثل الدكتور ذاليوال ربما يكون قد فكر في إصابة ابنته بالتهاب اللفافة الناخر، لكن أطباء ابنته كانوا مذهولين بشأن هذه الحالة، كانت إيزابيل مصابة بالجدري المائي - ولم يتمكنوا من تخطي ذلك.

ولو أنهم أدخلوا أعراضها - ارتفاع درجة الحرارة، والقيء والطفح الجلدي - إلى برنامج تشخيصي، لربما كان قد تم تشخيصها بشكل صحيح، بحسب مودي.

هناك الآلاف من الأمراض المعروفة، وهناك أمراض كثيرة نادرة. والأمراض قليلة الحدوث لا تتبادر عادة إلى أذهان الأطباء المعالجين، وقد كان ذلك جزءا من قوة إيزابيل. من المستحيل لأي شخص تذكر أعراض هذه الأمراض، لأن كل واحد منها يقدم نمطا مختلفا.

وأضاف أن إيزابيل لا يهدف لأن يكون بنفس مهارة الدكتور ذاليوال بل القيام بدور الطبيب التقليدي.

ويتفق الدكتور ديفيد برايلر، الرئيس التنفيذي لشركة هيلث إيفوليوشن بارتنرز، التي تستثمر في مجال شركات الرعاية الصحية على هذا الرأي. ويقول: «إذا كان الجميع عباقرة في التشخيص، فلن نكون بحاجة إلى هذه الأدوات التشخيصية».

وتشكل الأخطاء التشخيصية 15 في المائة من الأخطاء التشخيصية، بحسب معهد الطب. بيد أن البرنامج التشخيصي كان بطيئا في شق طريقه إلى المنشآت الطبية، ويشير الدكتور زاليوال، الذي يستخدم إيزابيل كفحص ثانٍ إلى أنه يدرك السبب في ذلك.

وقال ذاليوال: «لا توجد صعوبة في دمج البرنامج في غمرة العمل اليومي المشحون بالفعل فحسب، بل إن غالبيتنا لا يعتقدون أننا لسنا بحاجة إلى المساعدة في عملية التشخيص، وبخاصة الحالات المعتادة، التي تمثل أغلبية عملنا».

ويتشكك الدكتور هنري لوي، الطبيب في جامعة ستانفورد ومدير مركزها للمعلومات السريرية، في إمكانية أن يحل الحاسب محل التشخيص البارع الذي يقوم به الدكتور ذاليوال أو حتى طبيب كفؤ. ويقول الدكتور لوي: «تصميم أنظمة حاسوبية تعمل جيدا بمعلومات غير كاملة وغير دقيقة أمر يشكل تحديا، وبخاصة في مجال الطب حيث تكون عواقب اتخاذ قرارات خاطئة كارثية».

* خدمة «نيويورك تايمز»