هموم الإنتاج في بال صانعي الأفلام

محمد رُضا

رشيد مشهراوي
TT

* يوميات مهرجان دبي السينمائي الدولي- 3

* غاب اسم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي عن الساحة بعض الوقت. بعد «عيد ميلاد ليلى» قبل أربع سنوات أنجز فيلما تسجيليا قصيرا لحساب «الجزيرة الوثائقية» ثم.. لا شيء باستثناء حضوره مهرجان دبي في العام الماضي وعودته إليه هذا العام. أين أنت؟ تسأله فيضحك ويقول: «نعم غبت عن الإخراج منذ (عيد ميلاد ليلى) لكن معظم الوقت قضيته في تحضير فيلمي الجديد الذي صوّرته في فلسطين».

رشيد مشهراوي من مواليد غزة لكنه هاجر إلى باريس منذ نحو عشر سنوات حيث لا يزال يعيش ويعمل وهناك التقى بالمنتج التونسي حبيب عطية على أعتاب فيلمه التسجيلي السابق وقررا الاشتراك معا في صنع الأفلام. لذا حبيب عطية هو منتج الفيلم الجديد وعنوانه «فلسطين ستيريو» الذي تم تصويره كمشروع فرنسي في رام الله.

«لقد انتهيت من التصوير لكني سأدخل الآن عملية ما بعد التصوير من مونتاج ومكساج ومسائل فنيّة أخرى» يقول المخرج معبّرا عن حبوره بإنجازه. لكن الفيلم يحتاج إلى 25 في المائة من ميزانية ما بعد التصوير ليكتمل وهذا هو أحد الأسباب المهمة التي من أجلها يؤم المخرج ومنتجه المهرجان الحالي وذلك بحثا عمن يستطيع الاستثمار في هذا المشروع وإنجازه ليكون جاهزا للعرض في مهرجان «كان» المقبل.

الحال أن الكثير من الأفلام تنتظر اكتمال عناصر إنتاجها إما وهي ما زالت على الورق قبل دخول التصوير أو بعده. والمهرجانات السينمائية العربية صارت تنوب عن وكلاء الأعمال في هذا الشأن، إذ تتيح علاقات ولقاءات مباشرة بين السينمائيين والممولين سواء أكانوا أفرادا أو منظّمات وشركات.

لكن المنتج التونسي يؤكّد أن ذلك لم يعد صعبا كما كان الحال لسنوات من قبل. والحقيقة هي أنه ليس صعبا خصوصا إذا ما كانت الميزانية محدودة. لكن ما هو صعب إيجاد الميزانية من مصدر واحد لأن لا أحد يملك ناصية التمويل كاملا خشية من الفشل فشلا كاملا. المنتج البريطاني فيليب رفاييل الذي ساهم في إنتاج فيلم اللبناني فيليب عرقتنجي «تحت السقف» يعرف شيئين أو ثلاثة حول هذا الموضوع وكلها تناقض ما سبق: «لم يعد سهلا تحقيق أفلام مختلفة. طبعا ليس لديك مشكلة فيما لو أعجب المشروع شركة أميركية إذ ستوفّر له الإمكانات المطلوبة والتسويق بكل سهولة. أما الفيلم البديل أو الفيلم الذي نسعى نحن لإنتاجه لأنه النوع الذي ننشده فهو يمر بأزمة».

بول يفسّر ذلك مضيفا: «قبل سنتين لم يكن لدي سوى مشاريع في اليد. لم يكن من بينها أي مشروع مؤكد. واحد عملت عليه منذ ثلاث سنوات، وآخر عملت عليه منذ خمس سنوات وكلاهما كان مجمّدا بالوعود المقطوعة وغير المنفّذة. هذا العام وحتى نهاية العام المقبل تغيّرت الصورة. المشروعان جاهزان للانطلاق وفوقهما مشروع جديد لفيليب عرقتنجي صار جاهزا للإنتاج. ما أقصد قوله إنه لا يوجد قانون واحد لهذا الوضع، لكن السائد هو أن تمتد فترة ما قبل التصوير لسنوات طويلة قبل أن تكتمل العدّة».

المخرج الإماراتي مجيد عبد الرزاق يلقي ظلالا على جانب آخر، إذ يقول: «لقد انطلقت في دروب السينما عن كل قناعة وكل اندفاع. وأقول بسعادة غامرة أنني حققت ثلاثة أفلام بمجهودي الخاص. الآن أجد أنه لزاما علي تحقيق الفيلم الرابع على نحو يؤمن دخلا ما. وأفهم أن ذلك يعني تغيير وجهة، لكن صعوبة التسويق هي التي أجدها أهم من صعوبة الإنتاج لأن الإنتاج يمكن أن يتوقف إذا لم تكن هناك سوق تستوعب».

هذه الآراء كلها تتحدث عن خبرة.. لم أسع إلى القيام بتحقيق حول الموضوع لكنها تهادت واحدة بعد الأخرى لأن مشكلات الإنتاج وهمومه تعيش في عقول كثيرين هذه الأيام.

الخيط بين الإخراج والإنتاج لم يكن رفيعا كما هو حال اليوم. ففي الماضي القريب كان المخرج يترك للمنتج الشؤون المالية وتأمين عناصر الإنتاج وعلى المنتج أن يترك للمخرج قراراته الفنية. تغييب المنتج بات استسهالا مؤثرا على نحو سلبي. طبعا ما زال هناك منتجون كثيرون يعملون في السينما، لكن تكاثر عدد المخرجين الجدد الذين يعتقدون أنهم يستطيعون حمل بطيختين في يد واحدة، وهم بالكاد يستطيعون حمل بطيخة واحدة بيدين.

* فيلم اليوم

* صرخة يمنية الصرخة

* المخرجة اليمنية خديجة السلامي تتحدّث عن الوضع الذي ساد صنعاء ومدن يمنية أخرى خلال المظاهرات التي سادت اليمن مطالبة بتنحي رئيس الجمهورية علي عبد الله صالح والتي انتهت بتنحيه فعلا وإعادة تشكيل البلاد على هيئة حكومية جديدة.. لكن السؤال المطروح حتى من قبل أن تنجز المطالبات الجماهيرية اليمنية ما أرادت إنجازه هو: هل المسألة مسألة تغيير أشخاص أم أن المطلوب تغيير مفاهيم؟.

يتركنا الفيلم مقترحا أن تغيير الأشخاص ليس المسألة بل إن المفاهيم السياسية والاجتماعية السائدة هي بيت القصيد.. وهذا البيت ما زال بعيدا عن المنال. في الحقيقة ربما بعيد جدّا عن المنال. «الصرخة» في حقيقة أمره ليس عما حدث وكيف حدث، بل عن كيف وجدت المرأة نفسها في قلب الانتفاضة، وهذا في جزئه الأول، وكيف شاركت (الجزء الثاني) وإلى أين انتهت (الثالث). هذه الأجزاء متوالية من دون قواسم أو خطوط فاصلة، لكن المشاهد يتلقفها بفضل تتابع تدريجي جيّد. فالمخرجة المعروفة تبدأ بإلقاء نظرة سريعة على المظاهرات التي اندلعت، ثم تدخل لب الموضوع لأن ما يهمّها هو دور المرأة فيها. وتكشف بوضوح عن أن الشرخ الحاصل بين الرجال والنساء، تبعا لكل ما هو معلوم من مفاهيم وتقاليد متوارثة، حاول أن يرسّخ نفسه ويحد من اشتراك المرأة في التعبير عن مواقفها تلك.

هذا يتّضح مثلا، في اقتراح البعض أن تقام خيم النساء في مكان قصي من المدينة، لكن النساء رفضن ذلك لأن في ذلك استبعاد لدورهن في العملية السياسية الحاضرة. هذا ما تشير إليه واحدة من الناشطات اليمنيات اللواتي يتم إجراء أحاديث معهن وتصويرهن خلال مشاركاتهن في المظاهرات. عند هذا الحد، نحن لسنا فقط أمام فيلم يبحث عن دور المرأة ويحث عليه، بل أمام فيلم يريد أن يطرح قضية المرأة المهضوم حقها بالكامل.

المشاهد تمر أحيانا متسارعة وأحيانا على وتيرة متكررة لكن خديجة السلامي تحقق الفيلم الذي لا يتسبب وضجر المشاهد متحاشية تكرار المشاهد أو المفادات بالضرورة. ما لا يحدث، للأسف، هو منح الفيلم محطات يرتاح فيها الصوت وتؤدي الكاميرا دورها في الرصد والتعريف والمتابعة وحدها من دون تعليق أو تسجيل حوارات. هذا لو توفّر لمنح الفيلم غطاء فنيّا صحيحا مع العلم بأن ما هو ماثل فيلم جيّد في حدوده وعلى الرغم من شريط الصوت المتتابع والمتنقل ما بين تعليق المخرجة لما تقوم به وتعليق الناشطات حول أعمالهن. هناك مشاهد قليلة تفتقد الأهمية، أو أن الأهمية التي في البال لم تتشكل صوريا وفي مقدّمتها ذلك الذي تتحاور فيه إحدى الناشطات مع ابنها الذي يبلغ من العمر عشر سنوات. صحيح أن الفكاهة هنا هي تعريفنا بما يفكّر فيه صبي لم يبلغ بعد سن المعرفة والنضج، إلا أن الحوار لم يكن طبيعيا (من الأم على الأقل) بل كان مصنوعا لخدمة الرسالة التي وصلت سريعا ولم تكن تتطلب المزيد. من ناحية أخرى، هذا العمل يبقى مختلفا بين الأعمال التي تحدّثت عما سمي بـ«الربيع العربي»، ففي حين أن همّ معظم ما تم إنتاجه من أفلام تسجيلية وروائية الحديث مباشرة عما حدث وكيف، فإن غاية المخرجة هي البحث عما لم يقع وهو امتداد الثورة إلى حد يسمح بانعتاق المرأة من سجن اجتماعي ساد قبل عبد الله صالح وخلال عبد الله صالح وبعد عبد الله صالح. هناك عشر دقائق أخيرة تعزز هذا كله: المخرجة (التي تعيش في باريس) عادت بعد حين إلى صنعاء لترى ما حل بالنساء اللواتي نزلن إلى الشارع وعشن في الخيم المنصوبة خلال الفترة التي شهدت وطيس الصراع، فإذا بالخيم باتت فارغة والمئات من النساء غادرن المكان ولم يبق سوى بعض المؤمنات بضرورة الوجود حتى كامل التغيير (نحو خمس عشرة امرأة). لكن المخرجة تسأل على نحو مباشر حول كيف يمكن أن يحدث هذا التغيير إذا ما كان الرجل ضحية للسائد بدوره. مشاهد الرجال وهم يخزّنون القات حزينة الفعل كونها ترميز لحال سائد يبدو من بعيد كما لو أنه لا علاقة له بالحدث وبالمفهوم الكبير من ورائه، لكنه مرتبط به على نحو وثيق.