فيلمان مصريان من عالمين.. واحد يُصيب وآخر يخيب

أحد مشاهد فيلم « هرج ومرج »
TT

السينما المصرية في المسابقة ممثلة بثلاثة أفلام هي «الشتا اللي فات» لإبراهيم البطوط الذي عرضناه حين شاهدناه في مهرجان «فينيسيا» و«موندوغ» لخيري بشارة و«هرج ومرج» لنادين خان، وهذان لم يسبق لهما العرض في أي مكان.

ما هو لافت أن الأحداث التي تمر بها مصر تدفع بسينمائييها إلى محاولات شتّى بهدف التعبير ذاتيا أو اجتماعيا عنها. ففيلم البطوط «الشتا اللي فات» يجمع بين ما هو ذاتي في رؤيته بما هو عام في محيط تلك الرؤيا حول الوضع الذي كان سائدا متوقفا عند نهاية الفصل الأول منه (على اعتبار أننا ما زلنا نتابع أحداث الفصل الثاني حاليا). وفي حين يغرف «هرج ومرج» من الواقع المصري معينه وصلب حكايته، يتحاشى، وبنجاح، عن تحديد الإطار الزمني، فلا الأحداث تقع في عصر مبارك ولا في الفترة الحالية، ولا في أي عصر آخر محدد في الواقع. أما «موندوغ» فينفرد بعيدا بنفسه عن كل شيء وإن يبقى مهموما بعلاقة غير مرتاحة بين مخرجه، كمسيحي قبطي ومصر التي يحبها ولو أنه سيجرّب العيش بعيدا عنها تبعا لمسارات هذا الفيلم.

خيري بشارة، لمن لا يعرفه، من بين أفضل مخرجي جيله في الثمانينات، هو ومحمد خان والراحلين عاطف الطيب ورضوان الكاشف وداود عبد السيد حفروا للسينما المصرية منهجا جديدا وواعدا. في التسعينات كان بعضهم لا يزال يعمل على نحو شبه متواصل، وفي العقد الأول من هذا القرن توقّف الجميع (باستثناء رضوان الكاشف الذي توفي باكرا) على نحو شبه متواصل أيضا.

خيري بشارة من بين الذين استمروا في العمل في التسعينات فحقق «حرب الفراولة» و«أميركا شيكا بيكا» و«آيس كريم في جليم»، ثم مال للعمل التلفزيوني من عام 2003 وانشغل به منذ ذلك الحين إلى أن قرر العودة عبر فيلمه الجديد «موندوغ».

وهو كان دائما يملك أفكارا شبه سيريالية. لفتات خاصة ذات لبنة غرائبية. لكنه في فيلم عودته يبني الفيلم كله على هذه اللبنة. يكفي كبداية أن نعلم أن الفيلم يدور حول مخرج تحوّل إلى كلب! ليس أي مخرج بل خيري بشارة نفسه.

إذ تم تقديم الفيلم بكلمة «عظيم» وادعاءات ممثليه بأنها «عبقرية»، فإن الواقع أن العمل هو أبعد عن أن يكون على هذا النحو. إنه فيلم بالغ التميّز بفكرته وبجوانب معيّنة من تنفيذه، بل لا ريب أنه لا يشبه أي فيلم آخر تم إنتاجه في سينمات العرب، لكن كل هذا لا يجعله بالضرورة فيلما عظيما، ولا حتى جيّدا للأسف.

البداية حول خيري بشارة وزوجته وابنه وبعض أفراد الأسرة في مشاهد تسجيلية. تعريف بالعائلة ومرور سريع على تاريخ بشارة مخرجا وحول عائلته وكيف التقى بزوجته (الفعلية) ثم يدلف إلى قرارهما دخول تجربة جديدة في حياتهما وهي العيش في الولايات المتحدة. كل ذلك قبل تغيير منوال العرض من تسجيلي إلى روائي من دون دراما. المقصود بذلك هو أن المشاهد التي كانت عولجت تسجيليا (أو وثائقيا كما يفضل البعض) توقّفت وتم الاستعاضة عنها بمعالجة روائية. لكنها، وعن قصد، ليست في وارد تفعيل حكاية درامية (أو كوميدية) مؤلّفة من فصول العمل التقليدي.

هنا يختفي المخرج من الصورة ويتم تقديم ابنه ليحل مكانه. الفكرة هي أن خيري بشارة اختفى عن البيت والعائلة على حين غرّة. قام المخرج بتصوير مشاهد لزوجته وابنه وهما يزوران معالم نيويورك وبعض حدائقها، كما في نقاشاتهما داخل المنزل الذي يعيشان فيه، قبل أن يكشف الفيلم عن أن مخرجه مختف. الابن يبحث عنه سريعا ويلتقي بفتاة تعيش في مبنى وجارها هو تاجر مخدرات. وهي تؤكد أن والد الشاب زارها وأنه طلب النوم على الكنبة في الصالون: «لن تصدّق ذلك.. في الصباح استيقظت ونظرت إلى حيث نام لأجده وقد تحوّل إلى كلب».

ها هو الكلب.. حيوان أسود كبير الحجم ينتقل من مالك إلى مالك. يلجأ إلى مغني بلوز يفترش الأرض وهذا يبيعه إلى امرأة بيضاء (لا بد من الكلمة لأن الفيلم مبني على العرقيات).. هذه المرأة تعرف تاجر المخدرات بحكم أنها مدمنة. الكلب يعود إلى المغني. تاجر المخدرات يشتريه. يعود بعد ذلك مرّة أخرى إلى المغني وبين كل مالك وآخر هناك كثير من المشاهد التي يتابع الفيلم فيها الكلب في تنقلاته في الشوارع والحدائق. يركض من مكان لآخر. يتابع الكلاب الأخرى ويشترك في اللعب معها أحيانا، أو يسير على غير هدى في أحيان أخرى. ولمعظم الوقت نتابع تعليقا صوتيا يراد منه نقل ما يفكر الكلب به بصوت عال. إنه لسان حال الكلب.

بالعودة إلى الشخصيات الآدمية فإن ما يتماثل لا يقصد به تشكيل عناصر للحكاية. صحيح أن هناك مشاعر نابضة بين بعض الشخصيات وأخرى، لكن لا شيء من هذه المشاعر يستطيع أن يتبلور من ذاتية الممثل إلى مستوى التعبير عنه. نمضي نحو ساعتين وثلث الساعة معه هي حياة كلب ومحيطه القريب من البشر.

هذا هو فيلم ذاتي. إذا صدّقنا جدية المخرج فإنه يتحدّث عن نفسه كما لو كان كلبا، بل هو يصف نفسه على هذا الوضع ولغاية يمكن تفسيرها بالعاطفية فهو يجد أن الكلاب أكثر وفاء من البشر وأنهم حين يحبّون يخلصون في حبهم. لكن الغالب والأبعد منالا على التفسير هو الجانب النفسي. طوال الفيلم نرى الكلب يجر وراءه الحزام الذي يربطه. باقي الكلاب لا أحزمة لها. هل يعكس ذلك شعور المخرج بأنه أمضى حياته رهينة مسؤولياته تجاه الآخرين؟ هل الحزام رمز لوضع يجد المخرج فيه نفسه مطالبا بالامتثال لقوانين وأعراف اجتماعية وسياسية؟ هذا مرجح ويستحق التسجيل إذا ما كان القصد هو هذا النحو. إما إذا لم يكن ذلك مقصودا، فإن مشاهدة الكلب يركض بحزامه في كل الاتجاهات لا تعد أكثر من مجرّد تكرار.

هناك فكرة كان يمكن لها أن تشكل واحدا من فيلمين: عمل مدروس بعناية يحتوي على قصة فعلية ولو كانت خيالية، والآخر فيلم كوميدي من إنتاج وولت ديزني حول الرجل الذي انقلب كلبا. لكن الفيلم يشق طريقا ثالثا: إذ هو مناف تماما لكل إمكانية تجارية، إلا أنه لا ينجز المستوى الفني الكامل. ما كان بحاجة إليه هو إلغاء المشاهد التسجيلية التي شغلت نصف الساعة الأولى وربع الساعة الأخيرة وكتابة نص جديد يبحث في إطار هذه الفكرة غير المطروقة.

عُرض هذا الفيلم كاشتراك مصري في المسابقة وهذا هو شأن فيلم نادين خان الأول «هرج ومرج».

نادين هي ابنة محمد خان من الجيل الذي ينتمي إليه خيري بشارة. والمرء أمام تجارب لمخرجين هم أبناء مخرجين سابقين، يجد نفسه أمام توقعات متعددة. هناك أن يبز الابن (أو الابنة) أباه، واحتمال أن يأتي عمل الابن أوهن وأضعف من عمل أبيه، أو أن يختلف عنه في أوجه كثيرة.

نادين تختلف أكثر مما تلتقي وتنجز فيلما ربما ليس بجودة «أحلام هند وكاميليا» أو «زوجة رجل مهم» لأبيها، لكنه يوازيهما تجديدا في الرؤية إلى الوضع الماثل.

تستخدم نادين السينما الروائية مضغوطة في نحو 80 دقيقة تستعرض أحداثا تقع في سبعة أيام: فجر الاثنين، صباح الثلاثاء، ظهر الأربعاء، مساء الخميس، ليل الجمعة، ثم فجر الأحد. وتلم شمل أحداثها وشخصياتها في حارة غير مسماة (بناها الفيلم كديكور). الحكاية بسيطة، لكن مدلولاتها كبيرة: الحارة. رجلان شابان يعادي كل منهما الآخر راغبا بالفوز بحب فتاة معيّنة في الحارة. الفتاة هي ابنة «كبير الحارة» الذي يخشى على فضيحته بعدما مارس الغرام مع زوجة أحد جيرانه وصوّرها بهاتفه الذي تمت سرقته. هناك مباراة كرة قدم بين الشابين وجائزتها فوز المنتصر بيد الفتاة.

إنها القاهرة. أو مصر. أو ربما رقعة في بلد عربي آخر بصرف النظر عن اللهجة. المهم هو أن هناك هذا النموذج لمجتمع ما يرزح تحت قدره من الفقر الرهيب تمزّقه شخصيات تعيش واقعها من دون قدرة على التغيير. متعاملة مع يومياتها كما لو أن المكان والزمان المحدودين هما حدود سجن قائم. المخرجة تقول إن هذا الفيلم هو فانتازيا داكنة. الأحرى أنه عمل سيريالي من نوع صعب، فهو من حيث بيئته بالغ الواقعية ومن حيث معالجته يدعو للدهشة على الرغم من أن شخصياته لا تقوم بما هو خارج المتوقع وليس من أحداثه ما هو شاطح نحو وضع غرائبي. ما هو مدهش فيه هو بناؤه المزدوج هذا: كيف تحفر عميقا في واقع، وشفافيا في أبعاده المختلفة.

هناك صوت مذيع لا نراه ينقل لأهل الحارة ما يحدث معهم. يُعلن، مثلا، عن وصول شاحنة الماء تارة وعن وصول شاحنة الغاز تارة، وينقل أخبار الحي وما يحدث فيه على غرار ما فعل الأميركي سبايك لي في «حمى الغابة» من قبل. لكن هذا التلاقي في الأفكار قد يكون صدفيا إذ لا يوجد ما هو استيحاء محدد لا من سينما سبايك لي ولا من سينما سواه. حتى سينما محمد خان لا علاقة لها هنا بممارسة ابنته. الأصح قوله هو أنها بقيت في الإطار الواقعي ذاته لكنها طرحت فيه زاوية جديدة مختلفة تماما.