مؤسسة «العويس» تحتفي بـ«الفن العراقي المعاصر» في دبي

53 لوحة لـ9 فنانين مهاجرين يجسدون الهم العراقي عبر مدارسهم المتنوعة

الفنان سالم الدباغ يشرح سبب اختياره للأسود والأبيض في لوحاته
TT

تنظم مؤسسة «سلطان العويس» الثقافية «معرض الفن العراقي المعاصر» حاليا بقاعة المعارض، والذي انطلق يوم الجمعة الماضي 7 ديسمبر (كانون الأول) ويمتد حتى 7 يناير (كانون الثاني) المقبل.

ويأتي هذا المعرض استكمالا لسلسلة معارض نظمتها المؤسسة طيلة سنوات كان لها صداها في الوسط الفني، حيث شارك فيها فنانون لامعون من شتى مدارس الفنون التشكيلية، استقدمت أغلبهم من الخارج من خلال رؤيتها بأن «الفن التشكيلي العراقي بلغ ذروة تطوره في ستينات القرن الماضي، واستمر في حركته الديناميكية في التطور الإبداعي على يد مجموعة من التشكيليين العراقيين الذين أصبحوا في واجهة هذا الفن، لا على مستوى العراق والوطن العربي فحسب، بل على مستوى العالم». وتؤكد مؤسسة «العويس» تقييمها للفن العراقي بأن «هذه النهضة استمرت في تطورها مشكلة تجربة فريدة في انتمائها وجذورها وتأثرها العربي والأوروبي المعاصر مثلما أثرت في الفن التشكيلي على مستوى العالم».

وقد ضم المعرض أعمالا تنوعت بين الرسم والنحت والتكوينات الفنية، وفق مدارس واتجاهات فنية متباينة وصل عددها إلى 53 عملا، تعبر وفق رؤى متنوعة عن الفن التشكيلي العراقي المعاصر، لكل من الفنانين علاء بشير وسالم الدباغ وغسان محسن ومحمد السعدون ووليد القيسي وإيمان محمود وعلي رشيد ومدحت كاكي وصدام الجميلي. ومما لا شك فيه أنه لا يمكن أن يختزل التشكيل العراقي بمجموعة معينة من الأعمال لعدد محدود من الفنانين، بغض النظر عن قاماتهم الفنية، لكن هذه الأعمال تقدم رؤية معينة لهذا الفن وتنوعاته بين المدارس المختلفة.

وقد اختزل الفنان المعروف علاء بشير «المقيم في لندن» والمشارك بهذا المعرض، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أعمال هذا المعرض الذي اجتمعت فيه نخبة من الفنانين العراقيين المنحدرين من جغرافيات متنوعة من العالم، بالقول إنها «تعبّر عن جوهر الفن العراقي الذي يعيش الوطن والمنفى في آن واحد. وهي لوحات أقل ما يمكن أن نقوله عنها أنها بعيدة كل العبد عن أعمال التزيين والتصميم التي تنتشر هنا وهناك، فهي تنتمي إلى الفن الهادف والعميق والمعبّر لأن القيم الفنية التي تفرزها اللوحات لا تُقاس بسطح الأشياء بل بأبعادها الأخرى غير المرئية عند سطح اللوحة بل في أعماقها. وأعبّر عن امتناني لمؤسسة (العويس) الثقافية التي استطاعت أن تجمع هذا العدد الغفير من الفنانين، ومن أجيال ومدارس مختلفة، في مكان واحد وهو دبي التي أصبحت قُبلة للفن العالمي».

أما عن أعماله، فقال الفنان بشير «إنني أريد أن أرى من خلال لوحاتي العلاقة بين الإنسان والكون، وأدرس الإنسان في هذه العلاقة، لأن الفنان الحقيقي يجب أن يبحث عن الكون في داخل نفسه لا خارجها، وهو ما أسعى للتعبير عنه بكل تواضع». وقد اشترك الفنان بعملين هما «الوعي» و«الإنسان والقدر»، مؤكدا أنه استمد فكرة العمل الأول من قوله تعالى «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم»، مضيفا «وعي الإنسان وعلاقته بالكون بحاجة إلى مزيد من التدبر والتأمل الذي يفضي إلى وعي الإنسان بحقيقته أولا وحقيقة الكون ثانيا». ويرى بشير أن أهم ما يميز التشكيل العراقي المعاصر هو أنه لا يتعامل مع ظاهر الأشياء، ويميل دوما إلى الغوص في أعماقها، وتحليل الظواهر الكونية، والسعي لاستكشاف «القوة الخفية» فيه.

الفنان العراقي غسان محسن، المقيم في البحرين، يستحضر رموز العراق، مستخدما ألوان الإكريليك بتقنية عالية، ولوحاته مليئة بالحركة: قوارب وبيوت ومساحات حرة من التفاصيل. إنه اتجاه نحو التجريد. يقول الفنان غسان محسن عن هذه التجربة «بعد تجربتي مع الانطباعية أتجه نحو التجريد وأقترب منه، فأنا لا أميل إلى المباشرة في الطرح». ويفسر عودته إلى رموز العراق بأن «الفنان لا يمكن أن ينفصل عن بيئته وثقافته والمفاهيم والقيم التي تربى عليها». إن استخدام سماكة الألوان التي مزجها على سطوح لوحاته لتعطي تأثيرات مختلفة ساعد في ظهورها اعتماده على الألوان الحارة التي ظهرت بقوة في لوحاته، كما أن عمله في السلك الدبلوماسي لم يبعده عن ممارسة الفن الذي قاده من الانطباعية إلى التجريد ليحقق الفنان من خلاله الكثير من الخصوصية. وقد شارك محسن في المعرض بخمس لوحات، أربع منها تنتمي إلى مجموعة واحدة يسودها اللونان الأخضر والأزرق، اللذان طوعهما لتكوينات منتظمة أشبه بأشكال المربع والمستطيل في متوالية لونية مبهرة، وهو ما فسره بأنه منحاز لهذين اللونين تحديدا، مضيفا «علاقة الفنان باللون تلقائية ونفسية لا إرادية، والصحيح أن الألوان هي التي تختار الفنان لا العكس». ورأى محسن أن أبرز ما يجمع الفنانين التشكيليين العراقيين حاليا هو الربط المذهل بين الإرث الحضاري والتيارات العصرية.

أما الرسام علي رشيد، المقيم في هولندا، فهو ينزع إلى التجريد في لوحاته المعروضة، وتظهر على سطوح تلك الرسوم المشاهد من خلال أثرها العابر، في الوقت الذي تكون صورتها قد اختفت فيه. وهو ما يجعل يد الرسام تتبع خيالها في الوقت الذي تنصت فيه إلى ذلك الرجع البعيد الذي يجرد الأشكال من حدودها، ويستخرج المعاني من ترسب المشاهد في ذاكرته. كل لوحة من لوحاته هي بمثابة مزيج من مقاطع حلمية سابقة، تتباين في حجمها وكثافتها والزمن الذي تستغرقه، لكنها تتشابه من جهة ما تحمله من قدرة على التماهي مع توترها الداخلي.

وقد جرب محمد السعدون، المقيم في اليابان، في لوحته عناصر البناء والتنصيب المركب بكل مادة ابتكرها الواقع المشرقي كما تومئ إلى تأثيرات بصرية لحفور وآثار قديمة وألوان قاحلة طبعت تقنيته وأثرت بصيرته. ومنذ اختياره الرحيل بعيدا فهو لا يزال حاضرا في الفن العراقي. في لوحاته يقدم محمد السعدون أعمالا ولوحات هي خلاصة تجربة في استعمال مواد وبقايا الحياة اليومية ونوافذ وقطع أثاث وأبواب، تشكل اشتغالاته عليها تكريسا لمميزات أصيلة في تجربته. لا تتورع الرسامة إيمان عبد الله محمود عن المزج بين المخطوطـة التي تبث مضاميـن أدبية أو أركولوجية تاريخية، وبين العمل الفني الذي يبث رؤية جمالية من خلال الحروفية المبدعة وغير الملتزمة بقواعد الحروفية. فيما يستخدم الرسام صدام الجميلي مواد مختلفة للتعبير عن شخوصه التي اختارها من الواقع العراقي، إذ يسعى إلى استحضار عوالم متشابكة في لوحاته.

الرسام وليد رشيد القيسي يتجه نحو الخزف لكي يعبر عن دواخله الفنية، فقد أضافت الهجرة أبعادا أخرى إلى فنه، خاصة الطين واستخداماته في معرفة الآخر. وقد تأثر الفنان بمادة السيراميك والأشكال الطينية في حضارة وادي الرافدين. وقد أعطاها أبعادا جديدة في لوحاته التي تمزج بين الخزف والرؤية التراثية، وكأنه يرسم في متحف كبير في الهواء الطلق.

وما يميز أعمال الفنان مدحت كاكي، المقيم في اليابان هو الآخر، هو اعتماد اللوحة على درجات لون واحد أو ما يسمى بـ«المونوكروم»، وهو توجه جديد في الفن العراقي، ويثير التأمل ويستشرف الأبعاد اللونية في اللوحة حيث يصف اتجاهه الفني بالجديد على الساحة العربية، قائلا «ودعت التعبيرية التي أعتبر إنجاز أعمال في إطارها أسهل كثيرا من هذا الاتجاه الذي يستغرق وقتا وطاقة أكبر»، واصفا هذا الاتجاه بمصطلح «التقليلية» أو «أحادية اللون»، وأضاف «قد يستسهل المتذوق الجهد المبذول في اللوحة بسبب الاقتصاد في الألوان، لكن الحقيقة أنني كنت قادرا على رسم ثلاث لوحات في إطار التعبيرية خلال اليوم الواحد، لكنني قد أحتاج عاما كاملا كي أنجز عملا واحدا يستوفي معايير هذا الاتجاه، الذي يعتمد أيضا على مواد خام يحتاج تجهيزها إلى مساحة زمنية أوسع».

أما الرسام سالم الدباغ، فيمكن القول إنه لا شيء يمكن رؤيته في لوحاته ويمكن رؤية كل شيء أيضا. تبدو لوحاته للوهلة الأولى متشابهة، ولا تفاصيل فيها، وهو ما يمكن تخيله من رؤية سطح اللوحة، لكن التأمل في لوحاته يجعلنا ندرك تلك التفاصيل الدقيقة رغم الألوان الداكنة التي يستخدمها. يقول بهذا الصدد «لوحاتي واقعية المادة والجذور التي تعود إلى تاريخي الذي هو جزء من تكويني». وهو الفنان الوحيد بين المشاركين في المعرض الذي يقيم في بلده العراق، وأضاف «رغم تنوّع بلدان الإقامة للفنانين العراقيين، وتأثر كل منهم قطعا بمدارس واتجاهات متباينة، فإن الشخصية التي يتفرد بها التشكيلي العراقي لا تزال قائمة، لا سيما أن معظم الفنانين خرجوا من العراق وهم في حال من النضج الفني الذي يعني اكتمال شخصية الفنان». وشارك الدباغ بأربع لوحات مشغولة جميعا بالأبيض والأسود، لكنه رفض أن تكون هناك أحكام فنية مسبقة على لوحاته من مدخل سيادة اللون الأسود، وسحب الواقع السياسي والأمني لبلاده على نتاجه، مضيفا «أرى في الأبيض والأسود عوالم من الجمال، ولوحاتي تبث تفاؤلا وفرحا منشؤه طبيعة الشخصية العراقية».

هكذا اجتمعت في هذا المعرض مدارس تشكيلية وجمالية شتى تختزل الفن العراقي المعاصر وتأثيراته الداخلية والخارجية، بين الوطن والمنفى.