الغرب السينمائي يغزو العالم العربي برضاه

يوميات مهرجان دبي السينمائي الدولي (5)

. .من فيلم «نسمة الليل» لحُـميدة الباهي
TT

في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس هناك استوديو تاريخي اسمه «باثي / ألباتروس». تدخله فتجد فيه مكاتب لبضعة منتجين فرنسيين منكبين على العمل. أحد هؤلاء بالمير بدنييه، وهي اليوم أحد أكثر المنتجين العاملين في السينما الفرنسية اهتماما بالإنتاجات العربية.

يذكرنا بالمنتج الراحل أومبير بالسان الذي دعم عددا ملحوظا من المخرجين اللبنانيين والمصريين في التسعينات ثم انتحر لأسباب مادية أو مجهولة قبل بضع سنوات. المنتجة هي زوجة المخرج الفلسطيني رعد أندوني قابلته حين كان يصور فيلما بعنوان Fix ME (كما يكتب العنوان بالإنجليزية). الآن المخرج يستعد لتصوير فيلمه الثاني بينهما وهو «صيد الأشباح» وللغاية سيبني مقر اعتقال واستجواب إسرائيلي في مكان ما في الضفة الغربية.

حسب تحقيق لمجلة «سكرين» فإن بالمير باتت مقصدا لسينمائيين عرب آخرين يبحثون عن التمويل الذي هو اليوم له أكثر من وسيلة وباب لكنها جميعا كان عليها - وقد كانت يوما كذلك - أن تكون استثنائية.

للإيضاح، لدينا أرضية إنتاج من المفترض أن تكون كافية: منتجون وممولون وموزعون محليون من أكثر من دولة عربية هم الأهل لتوفير التمويل المطلوب للأفلام وتأمين تحقيق أحلام مخرجيها. المخرج يقابله المنتج وكلاهما عماد العمل في أي صناعة حقيقية قائمة (فرنسية، بريطانية، دنماركية، إيطالية، هندية، إسبانية.. إلخ). وهذا المنوال كان سائدا ولسنوات. لكن مع عواصف المتغيرات التكنولوجية والأزمات السياسية والاقتصادية جفت معظم الآبار وبات الاستثناء هو السائد.

هذا الاستثناء هو أن يدخل في صميم الإنتاج سينمائيون أجانب. طبعا الحال ليس جديدا، لكن ما هو جديد تضاؤل كم المنتج داخل البلد من قبل منتجين محليين وارتفاع نسبة الاعتماد على مصدرين يعملان أيضا على أنهما مصدر كبير واحد: صناديق الدعم العربية التي تم تأسيسها في دبي وأبوظبي والدوحة والمنتجون الأجانب.

آبار قديمة وأخرى جديدة هذا العام نلحظ وجودا فرنسيا كثيفا في كثير من الأفلام المشتركة رسميا في الدورة التاسعة من مهرجان دبي السينمائي. وإذا ما أخذنا أفلام مسابقة «المهر» الروائية والتسجيلية نموذجا نجد أن أفلاما تم تمويلها (على نحو جزئي غالبا) من قبل شركات فرنسية. هذا يشمل «برلين تلغرام» للعراقية ليلى البياتي (الذي هو في الواقع إنتاج ألماني/ فرنسي/ بلجيكي) و«أخي» للمغربي كمال الماحوطي (فرنسي/ مغربي) و«نسمة الليل» للتونسي حميدة الباهي (تونسي/ فرنسي/ إماراتي) و«موسم حصاد» لنسيم أمعوش وميس دروزة (فرنسا/ الإمارات/ فلسطين) و«غزة تنادي» و«رسائل من الكويت» لكريم غوري (فرنسا/ الكويت/ الإمارات). فإذا أضفنا مجموعة أخرى من الأفلام التي تتداخل فيها الجهات الأجنبية المنتجة (سويسرا، الولايات المتحدة، بلجيكا، ألمانيا) فإن العدد يقترب من أن يكون غالبا على عدد الأفلام المنتجة من داخل البلد ومعظمها لبناني أو مصري.

هذا وحده يعكس واقعا من ناحية هو إيجابي ومن ناحية أخرى يحمل نقصا. الأولى أن مهرجانات السينما العربية باتت وسيلة جذب للمخرجين الجيدين الطامحين وعنصر جذب للشركات الأجنبية التي تتوخى ضمانات من السوق المحلية قبل أن توافق على إبرام الاتفاقات، مع العلم أن ليس كل الشركات الأجنبية تشترط أن ينال الفيلم العربي دعما من مهرجان خليجي، لكنها جميعا ترحب أن تكون هذه المشاريع مدعومة.

الناحية الأخرى هي انعكاس لواقع نضبت فيه آبار التمويل العربي التقليدي نظرا لعدم قدرة المنتجين العاملين الاعتماد على إيرادات السوق، وبل على السوق ذاتها بوجود الاختيارات اللاهية الكثيرة من إنترنت وأسطوانات ووسائط يتم استنباطها اليوم بسرعة قياسية.

في المقابل، هناك عدد متزايد من المنتجين الذين يوجهون اهتمامهم اليوم صوب العالم العربي. يدركون أن ما يحدث في هذا الجزء من العالم مهم وقد يفجر مواهب جديدة أو يحفز بعض القديمة للعمل. والأهم أنهم يجدون في صناديق الدعم في بعض المهرجانات العربية حافزا للاستفادة قدر الإمكان وبصورة منطقية ومقبولة من كل الأطراف. لجانب السيدة بدنييه هناك السويسرية فرنسين لوسير والألمانية جوانا تيشمان. بناء على ذلك نجد أن الصياغة التمويلية باتت ممكنة بين أطراف عربية مثل «دبي فيلم كونكشن» وبين جهات أوروبية، بل وتتطور على نحو ملحوظ منذ عامين. هذه الصياغة، أو الحياكة بالأحرى، هي ما ساعدت على إنجاز فيلم «وجدة» للسعودية هيفاء المنصور (داخل المسابقة هنا) و«نوستالجيا» لزيد أبو حمدان كما «بيروت أحبك» لزينا الخليل.

وللمرة الأولى نجد لاعبا إضافيا على هذه الساحة متمثل بمؤسسة «ييرو إيماج» التابعة لصندوق دعم الاتحاد الأوروبي، الذي كان لحين قريب جدّا مهتم بدعم الإنتاجات الأوروبية وحدها أما الآن فهو منفتح على مشاريع لمخرجين غير أوروبيين.

كل ذلك عليه أن يساعد السينمائيين العرب على إجادة هذه اللغة العالمية القصوى، وهي لغة الفيلم. التعبير عن ذواتهم ودخولهم بالطريقة الفنية الصحيحة، ومعظم ما هو معروض هنا في دبي حتى الحين ناضج وجيد ما ينعكس إيجابا على هذا المهرجان الذي لا يزال، والأرجح أنه سيبقى، الأول عربيا.

* نسمات فرنسية في تونس

* نسمة الليل إخراج: حميدة الباهي (تونس).

* كما شهدنا هنا الفيلم الأول لابنة المخرج المصري محمد خان، واسمها نادين، وعنوانه «هرج ومرج»، تم عرض الفيلم الأول لابن مخرج تونسي معروف كذلك هو رضا الباهي. المخرج هو حميدة الباهي والفيلم هو «نسمة الليل» والإنتاج فرنسي - تونسي - إماراتي من 88 دقيقة.

على عكس الفيلم المصري المذكور، هذا الفيلم هو حكاية أولا قبل أن يكون حفرا في منهج فني. منفذ كلاسيكيا وبطريقة صحيحة ويمكن الاعتقاد بأن مخرجا حقق من قبل بضعة أفلام هو الواقف وراء الكاميرا، لكن لا يمكن الاعتقاد بأن رضا الباهي نفسه، بأسلوبه ومراميه وأبعاد ما يحكيه، له أي علاقة.

«نسمة الليل» (أو فقط «نسمة» كما عنوانه الفرنسي) يتحدث عن شاب متزوج يعمل وزوجته في شركة عقار. لديهما فيللا للإيجار. الفيلم يبدأ هناك ليفسر سبب عنوانه، فحسب الزوج يوسف (فريد الوردي) هناك بقعة في حديقة الفيللا تمر بها نسمات هواء على نحو دائم بصرف النظر عن الوقت من السنة أو عن لهيب الصيف. والصيف يلعب دورا مهما هنا، فالأحداث تقع خلال الشهر الثامن من العام مباشرة بعد تغيير النظام، والرمز المقصود يرتبط بحالة الإنسان وهو تحت ضغط الحر على غرار «افعل الشيء الصحيح» و«حمى الغابة» لسبايك لي. يوسف يكتشف أن أحدا سطى على حسابه في البنك. فرّغه من رصيده عبر الاستيلاء على معلوماته المصرفية. وهذا الرجل الغامض ينتحل اسمه ويعرف عنه كثيرا. يحذره عبد الكريم، وهو المحقق المكلـف بالبحث في هذه القضية قائلا له: «هو قريب منك ويعرف ما تقوم به».

الشكوك تقود يوسف لرصد شاب كان يدخل منزله فيعترضه. ينفي الشاب أنه على علاقة أو علم بهذا الموضوع. يدفعه يوسف دفعة إلى مقدمة سيارته الواقفة فيموت (!). يخفيه في الفيللا المعروضة للبيع قبل أن يواجه تبعات الجريمة التي ارتكبها.

على جانب آخر هناك فتاة اسمها نسرين تعيش في بيت صغير مع والديها وشقيقها وتتسلل ليلا لمقابلة صديقها. إنها في السن الذي تريد فيه اكتشاف الحب وتبعاته. هناك مشاهد قليلة تجمعها مع عائلة يوسف لكنها لا تكفي لتبرير الخط الثاني. في المقابل، زوجة يوسف التي ترتاب قليلا في تصرفات زوجها لكنها تحبه كثيرا، تحاول معرفة ما يدور قبل أن تعلن عن سفرها إلى الصين. إنه بعد سفرها بساعات يكتشف يوسف هوية منتحل شخصيته ويبتسم لذلك.. نهاية سعيدة من نوع مقبول.

التنفيذ جيد. لقطة للقطة. مشهدا لمشهد. وصياغته متكاملة حِرفيا. العناصر الإنتاجية تحدد مساحة المكان والعمل ككل والفيلم يوظف تلك القدرات جيدا. لكنه يحمل مشكلة رئيسية تنتزع منه كثيرا من إيجابياته: الفيلم ناطق، بمعظمه، بالفرنسية رغم شخصياته ومكان أحداثه. ربما تكون دواعي ذلك تسويقية صرفة، لكن بمجرد الإقدام عليها يخلع الفيلم عن نفسه هويته. يغير ملابسه ليرتدي أخرى غير وطنية. والغاية هنا ليست المطالبة بالعودة إلى مبدأ «المواطنة» بل إلى الالتزام بواقعية الحدث وهويته خصوصا أن واحدا من معاني الفيلم الحديث عن فترة سياسية تمر بأزمات. هذه الفترة ليست في فرنسا بل في تونس وشخصيات الفيلم لا تعيش في الكارتيه لاتان أو ضواحي باريس بل في ضاحية تونسية.

تمثيل الجميع جيد ومطواع. للممثل فريد الوردي شبه طفيف بتوم كروز وللممثلة التي تؤدي دور زوجته شبه بجوليا روبرتس. بتخلي الفيلم عن هوية تونسية كاملة يجعل المرء معذورا إذا ما قارنه بالأفلام الفرنسية. إنه يبدو، بصريا، واحدا منها. شيء من منهج كلود شابرول من دون عمقه أو تجربته. لكنه يبقى مقبولا.