ترك تصميماته في مجال الروبوتات ليجول حول العالم

الشهاوي عبر 75 دولة وزار 23 غابة استوائية

أحمد الشهاوي
TT

من قرية محلة القصب بمحافظة كفر الشيخ المصرية انتقل الطالب يومها أحمد الشهاوي إلى مدينة غراتس غرب النمسا لدراسة الهندسة حيث تخرج في قسم تصميم الماكينات بل واخترع 16 روبوتا كامل الآلية سجلت باسمه. تفوقه فتح له مجال العمل واسعا في عدد من الشركات الأوروبية كما دفع لتكريمه ونيله أفخر الشهادات وأثراها ومن ذلك أن منحته النمسا في عام 1995 جائزة أحسن اختراع أوروبي قالوا عند تقديمه إنهم فخورون بتقديمه لأول عربي.

ما أثار الحيرة وما يزال أن أحمد الشهاوي وهو في قمة تلك النجاحات انتابه إحساس فجائي عارم أنه أعطى الهندسة كل ما عنده وأنها أعطته كل ما يحتاجه فاستقال وترك الماكينات والروبوتات وطفق رحالا يبحث عن حياة جديدة أبعد ما تكون عن تلك التي سبقتها وإن ماثلتها، فقط، من حيث الاهتمام بالبحث والاكتشاف وإن كان في مجال مختلف الاختلاف كله.

أحمد الشهاوي، هو الرحالة العربي مصري المولد نمساوي الجنسية الذي التقته «الشرق الأوسط» بفيينا التي وصلها الأسبوع الماضي من مقر سكنه بمدينة اينزبورك عاصمة إقليم تيرول لتسلم درع «الثقافة المصرية» الذي تكرم بتسليمه إياه الملحق الثقافي المصري الدكتور مرسي أبو يوسف.

بينما الشهاوي يعد العدة لرحلة جديدة وصولا لغابات استوائية لم يطأها من قبل وإن وطئ 23 غابة استوائية وعبر 75 دولة، كررت «الشرق الأوسط» السؤال عما يدفع مهندسا ناجحا وأب أسرة حديثة لترك كل وسائل التقنية والرفاه مفضلا قضاء أيام وليال وسط أدغال ومستنقعات وحيوانات وقبائل بدائية لا يعرف لغاتها ولا تتواصل معه بالعربية أو الألمانية أو الإنجليزية التي يجيدها فيعود للإشارة والتعبير برسومات يرسمها بعصاه لا يتخلى عنها كما لا يتخلى عن سكين صغيرة هي كل عتاده وكل سلاحه؟

يقول: «منذ عام 1996 أحسست بأنني أحتاج لوقفة مع النفس حينها; لم أكن أعلم عما أبحث فقررت أن أقوم بعطلة للراحة والاستجمام بعيدا عن أي مؤثر أو وسيط يعلقني بالحياة المدنية الحديثة فقصدت منطقة (سيشوانغ بانا) جنوب غربي الصين وشمال لاوس. دخلت تلك المنطقة الوعرة كسائح عادي مستعينا بمرشد وسائق امتنعا بعد أن توغلنا أن يرافقاني فواصلت من دونهما وبقيت لأيام وكانت تلك بداية رحلاتي لغابات استوائية حيثما يمر خط الاستواء بآسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية».

وكأنه يعود لأيام بعيدة قال الشهاوي الذي أطلقت عليه الصحافة المصرية لقب «ابن بطوطة المصري» إن السفر كان موهبة نمت مع شبابه إذ سبق أن تجول في أوروبا مسافرا بالدراجة من النمسا حتى روسيا رغم أنه عندما كان صغيرا ظل كوصفائه من أبناء وادي النيل مرتبطا بنجعه ومحافظته.

أثناء رحلاته نفى الشهاوي أن يكون له برنامج محدد، موضحا أن كل ما يحرص عليه هو أن يواصل ترحاله بحثا عن طعام ومكان آمن للنوم وهكذا يلتقي ويتعرف بالقبائل البدائية التي تعيش في تلك الأدغال والتي يقسمها إلى قسمين حسب قربها من أطراف الغابة. الأقرب لهم اتصال بالعالم الخارجي بينما يقل إلى أن ينقطع تماما ذلك الاتصال كلما تعمقت القبائل وكلما توغلت.

ومما تمتاز به تلك القبائل كما خبرها الشهاوي تراكم خبرات تمكنها من التعايش مع ما حولها بدليل أن شخصا مثله يجيء من قمة عالم التقنية والحداثة يبدو بينهم كالمعاق، مشيرا إلى أن أجسامهم تطبعت مع الأجواء التي تحيطهم كما أنهم أصبحوا أكثر مهارة في الاستفادة من النباتات التي تنمو قربهم واستخدامها كمواد بناء لسكناهم ولملابسهم وكأدوية فعالة وعقاقير ضد أمراضهم. مسترسلا أن بعضهم على سبيل المثال يستخدم بحكم الخبرة نوعا من نبات «الارتميزا» لعلاج الملاريا الذي أثبتت أبحاث علمية أن المادة الفعالة فيه 60% ضعف مادة «الباي فوس» المستخدمة في معظم أدوية علاج الملاريا.

كذلك أشار لاستفادتهم من نباتات «المانجروف» ومنه ما ينبت في المياه المالحة ويمكن الاستفادة منه لوقف جرف وتآكل الشواطئ ومنه ما ينبت في الصحارى من دون مياه كتلك النوعية التي تسمى بـ«غابات الأقزام» لقصرها وكثافتها ومن مميزاتها أن أوراقها عندما تتساقط تخلق تربة صالحة للزراعة وكأنها سماد طبيعي، مشيرا إلى أن هذه الأنواع من النباتات قادرة على التأقلم في أي بيئة وتعيش على رطوبة الهواء وبالإمكان الاستفادة منها لحماية الصحارى والشواطئ لو آمنت الحكومات أن داخل تلك الغابات ثروات لا تعوض يمكن الاستفادة منها بدلا عن قطعها عشوائيا والقتل والتدمير لحياة القبائل البدائية التي نعتقد خطأ أنهم درجة أدنى وأنهم متخلفون رغم أن هذا ليس صحيحا البتة.

ويضيف الشهاوي أنه عاش مع أكثر من 12 قبيلة بدائية في غابات استوائية; نام نومهم وأكل طعامهم فكان أن سألناه عن أغرب ما رسخ بذهنه من عاداتهم؟

منح المرتبة الأولى من حيث الغرابة لعادة قبائل البيجي مين وهم من الأقزام الأفارقة الذين يحولون أسنانهم إلى أنياب بنشرها حتى تصبح قواطع سنية لتساعدهم على أكل اللحوم نيئة مما عده سببا من أسباب انتشار الإيدز إذ انتقل الفيروس من القرود لبشر في مناطق واقعة شمال الكونغو وبأفريقيا الوسطى والغابون.

ومن أغرب ما صادف كذلك أن قبائل اليانو مامي بشمال البرازيل يطحنون عظام موتاهم ويحولونها إلى مسحوق يخلطونه بشراب موز يشربه أهل الميت اعتقادا أن الميت هكذا سيعيش في دواخلهم ولن يفارقهم.

ومما عده في مرتبة أغرب الأطعمة أن قبيلة هينان جنوب الصين تطهو الذباب وتستمتع به كما تلتهم قبائل كمبودية العناكب مقرمشة وزادته «الشرق الأوسط» أن قبائل أميركية وأخرى أفريقية تأكل حشرات الجراد مشويا ومعلوم أن ديدانا وسلاحف وضفادع لها مواقع مكلفة في مطاعم غربية فاخرة.

من جانبه واصل مضيفا أن «صلصة النمل» لا مثيل لها من حيث قوة ولذة الطعم ودرجة القرمشة رغم منظر النمل الذي لا يتم هرسه هرسا ناعما وكان قدم النمل صلصة في مدينة فنزويلية سماها «مدينة النمل» لكثرة نملها بسبب انتشار أشجار المانجو التي زرعها مجرمون كعقاب فرضه حاكمها بدلا عن زجهم في السجون، مواصلا أنه اضطر مرة لأكل ثعبان نيا بسبب ضياع حقيبته التي لا تفارق ظهره وكانت بها قداحته لإشعال نار، ومن شدة التعب والجوع لم يتسن له إشعال نار بالطرق التقليدية كضرب حجرين أو فرك عودين.

وعن أشد ما أثار ذعره قال: «يوم اقتربت خطأ من منطقة وسط أدغال ومستنقعات تحتكرها عصابات المخدرات بكولومبيا وقد أثار اقترابي بكل عفوية شكوكهم.. من أكون؟ ولماذا اقتربت؟ وهل أنا جاسوس أو عميل فطاردوني».

وبالطبع سألت «الشرق الأوسط» ابن بطوطة المصري إن كان يلتزم بتصوير غرائب ما يمر به حتى لا يتهمه أحدهم بالمبالغة؟ فسارع للرد بلهجة مصرية لا تخلو من سخرية «يعني مثلا كان مفروض علي عندما وقعت في شلال وكانت المياه تدفعني بقوة وأنا على وشك الغرق ألا أنقذ نفسي وأن أقف لالتقاط صورة؟» مواصلا بجدية: «عندي الكثير من الصور وأفلام الفيديو بالإضافة للكثير من المحاضرات واللقاءات كما وضعت كتابا».

وبالسؤال عن تمويل رحلاته؟ جاءت الإجابة قاطعة وحازمة أنه يمول رحلاته مما كسبه من تصميم الماكينات سابقا ومن عقارات واستثمارات شارحا أنه داخل الغابات لا يحتاج مالا وأن يضطر لصرف الكثير في الانتقال والإقامة بالمدن حتى يصل للغابات، مشيرا إلى أن اكتسابه للجنسية النمساوية يسهل الانتقال دون تأشيرات عبور لكثير من البلاد.

وردا على سؤال لماذا لا ينسق رحلاته مع منظمات طوعية أو حكومية من تلك التي تهتم بالبيئة والحياة البرية وعلم الاجتماع أو هيئات إغاثة سيما أنه يعمل أعمالا خيرية لمساعدة من يلتقيهم من شعوب بدائية بل أصبح مسؤولا عن 400 طفل يرعاهم ويهتم بتطوير حياتهم وفق منهج لا تطعمني سمكة بل علمني كيف أصطاد؟

وكانت إجابته أن معظم تلك الهيئات تنفق النسبة الأكبر من ميزانياتها على موظفيها بدلا عن المحتاجين إضافة لذلك كان قد أشار في كتابه «الرحالة والغابة» أن الإنسان بمفرده أكثر حرية ولا يحتاج للعمل برأي الجماعة والأغلبية أيا كان «سياسة القطيع» وإنما يحكم عقله في اختيار قراراته.

ولا يزيد ما يحمله الشهاوي معه في حقيبة يعلقها في ظهره من زاد وعتاد عن قليل من الملح لتعويض الأملاح التي يفقدها نتيجة العرق بسبب حرارة الطقس، وقليل من الكحول لاستخدامها كمطهر للجروح حتى لا يتطور أي جرح بسبب الرطوبة العالية ويصبح مميتا، بالإضافة لبعض التبغ لحشو الجراح التي تنبت من عضات دود العلق ولوقف ما تتسبب فيه من نزف كما أنه لا ينسى سكينا صغيرة وقبعة بجانب عصاه تفتح الطريق وتهش الثعابين ويتوكأ عليها عند التعب بجانب ما تكسبه له من مظهر بسيط يدفع للرثاء ويثير الشفقة فيبدو كغريب صديق وليس كغريب عدو.

> ألا تحمل بوصلة على الأقل؟

- لا أحتاج بوصلة حتى أسترد القدرات الطبيعية للإنسان التي افتقدها لاعتماده على الحياة المدنية. حواس الإنسان قادرة على توجيهه الوجهة الصحيحة ولو بعد حين.

> وماذا عن جوال صغير من تلك النوعية عالية التقنية كالثريا ولا يعوزك المال كما لا تنقصك المخاطر؟

- ضحك من الفكرة موضحا أنه داخل الأدغال يعيش عيشة طبيعية 100% مستمتعا برفقة القبائل البدائية وكامل الصفاء وحلو الطبيعة وطلاوة مياه الطل وأصوات الحيوانات وشقشقة العصافير دون تقنية من تلك التي يتركها خلفه حتى يعود إلى منزله بمدينة اينزبورك عاصمة إقليم تيرول الجميل حيث زوجته النمساوية التي تعمل أستاذة جامعية وصغاره الأربعة وجميعهم يدرسون كما يتعلمون الموسيقى.