على الرغم من أن درجات الحرارة في العاصمة النمساوية، هذه الأيام، دون الصفر أو فوقه قليلا إلا أن فيينا جميلة تموج حيوية وتضج نشاطا، تشع أضواء وزينة وتسودها حركة لا تنقطع تتخللها أصوات ضحك ومرح تنطلق من حشود تنتقل من سوق لآخر بين أسواق أعياد الميلاد التي تغطي الميادين العامة وساحات القصور الإمبراطورية الفخمة ويشغل أكبرها ساحة مكتب عمدة المدينة «الرات هاوس» التاريخية الفسيحة التي تصطف أمامها باصات السياح من دول الجوار تنقل المتسوقين في رحلات خاصة ومباشرة لا تنقطع منذ العاشرة صباحا وحتى العاشرة مساء مع انتهاء مواعيده.
أسواق أعياد الميلاد، هي أسواق موسمية تقليدية شعبية تفتح أبوابها بداية من النصف الأخير من نوفمبر (تشرين الثاني) وتستمر حتى نهار يوم الميلاد، وهي متخصصة في بيع أغراض الزينة والإضاءة والمأكولات والمشروبات وهدايا الميلاد.
لا يقتصر وجود هذه الأسواق على فيينا العاصمة فحسب بل تنتشر في معظم كبريات المدن النمساوية والسياحية ويقدر عددها هذا العام بـ150 سوقا وبالطبع تمتاز أسواق العاصمة منها بأنها الأكثر شعبية والأوسع شهرة كحال كل ما هو عاصمي في كل أنحاء العالم على الرغم من أن النمسا تتبع النظام الفيدرالي ولها من الأقاليم تسعة أقاليم كل منها لا يستهان به له ميزانيته وثرواته وحكومته وبرلمانه وجمالياته وخصوصياته وبرامجه الثقافية والاجتماعية والسياحية. وهناك منافسة قوية بين فيينا ومدن نمساوية لا تقل عنها سمعة وقد تفوقها جمالا طبيعيا مثل سالزبورغ وبريغنز وكلاغفورت واينزبورغ (هذه عواصم) كما هناك مدن صغيرة لشدة جمالها تمت طباعة نسخة منها كمدينة هال اشتات التي استنسخها الصينيون. وهكذا يسعى كل إقليم لتفوق ينصب مجمله في مصلحة النمسا كوطن جامع بدلا عن مركزية تمترس كل الاهتمام بالعاصمة وأطرافها في إهمال شامل ومتعمد للأقاليم مما يزرع البغضاء والكراهية ويؤدي لحروب تستنزف مال البلد ورجاله بل وتؤدي لانفصاله كما حدث في بلاد أخرى غاب عن سياسييها الوعي والحنكة.
داخل فيينا نفسها تعتبر سوق الرات هاوس السوق الأكبر حجما بل وتعتبر السوق الرسمية يحضر افتتاحه الدبلوماسيون المعتمدون لدى الحكومة النمساوية وتزينه سنويا «ملكة» شجرات الميلاد التي يتم اختيارها من بين شجرات كل الأقاليم وفق معايير أهمها عمر الشجرة وطولها وحجمها. شجرة هذا العام جاءت من إقليم النمسا السفلى ولها من العمر نحو 120 عاما وتزن 8 أطنان ويصل طولها إلى 32 مترا، هذه الشجرة كانت النمسا قد أرسلتها للمنافسة بالفاتيكان لتزيين ساحتها التي يؤمها الملايين إبان أيام عيد الميلاد، إلا أنها قد أبعدت لقلة أوراقها مما لا يتناسب وكثافة الأضواء والزينة بتلك الساحة الضخمة وكان أن اختارتها ساحة عمدة فيينا فجاءته في زفة يقودها حاكم إقليم النمسا السفلى بصحبة فرق موسيقية محلية وعدد من المسؤولين بالإقليم في حملة بيئية واسعة تكشف عن أشجار الإقليم وثروة غاباته. ومعلوم أنهم بالنمسا لا يقطعون شجرة دون دراية أو لمجرد حرقها كمورد طاقة أو لتشييد مبنى أو تعبيد شارع وإنما بعد دراسة وتمحيص وفق استراتيجية محلية وإقليمية تتناسب واستراتيجيات قومية. يتم قطع شجرة معمرة كهذا حتى تفسح موقعا لمزيد من الأشجار الجديدة كما يساعد قطعها في تهوية المنطقة من حولها وتنشيط التربة ولكل من هذه الأشجار ملف يتضمن معلوماتها جميعا.
حفاظا على البيئة فإن زينة الشجرة تمت باستخدام أضواء صديقة بينما أعلنت مؤسسات مالية مساهمتها بما يعادل 30 في المائة من تكلفة فاتورة إنارة الساحة بأكملها على أن تتكفل حكومة فيينا بباقي التكلفة. وتعتبر هذه الأسواق مصدر دخل عال إذ يتم تأجير الأكشاك بما قد يصل إلى 14000 ألف يورو وفقا للمساحة والموقع ويصل عدد الأكواخ بهذه السوق إلى 150 كوخا جميعها من الخشب وبالطبع هناك منصرفات ومستلزمات أخرى تزيد الربحية كإيجار مواقف السيارات والنظافة وغيرها من خدمات.
هذه المصاريف في زيادة عاما بعد عام، كما أشار في حوار صحافي المسؤول الأول عن أسواق أعياد الميلاد وهو نمساوي تركي الأصل مسلم من مدينة إسطنبول له من العمر 54 عاما اسمه، أكان كيسكيين، يتولى منذ عام 2005 رئاسة جمعية تعزيز وتنظيم قطاع الأسواق، كما يتولى نيابة رئاسة الجمعية الاقتصادية الاشتراكية المنبثقة عن الحزب الديمقراطي الاشتراكي الحليف الأكبر في حكومة إقليم فيينا والحكومة الفيدرالية. وكانت «الشرق الأوسط» قد اتصلت به هاتفيا لتسأله عن اتهامات عنصرية ترفضه وقلة من مسؤولين مسلمين آخرين يعتبرون من الحلقة المقربة جدا لميخائيل هويبل عمدة فيينا، المدينة التي فازت أربع مرات على التوالي بموقع الأحسن عالميا من حيث مقومات البيئة الأصلح للمعيشة، وعلى الأخص ترفض أن يكون مسلما رئيسا لفعاليات مسيحية الطابع والجوهر إلا أنه، وبكل ذوق، اعتذر بكثرة مشغولياته واعدا بإرسال عنوان بريده الإلكتروني لإرسال الأسئلة وهذا ما لم يحدث للأسف.
وكان كيسكين قد توقع في تصريحات إعلامية أن يصل عدد الزوار لسوق ساحة البلدية وحده نحو 3 ملايين بينما توقعت غرفة التجارة التابعة لحكومة فيينا مبيعات قياسية هذا العام قد تصل إلى 155 مليون يورو.
الطريف في الأمر; أن الزائر لهذه الأسواق قد لا يتخيل مطلقا أنها تتعامل بهذه الملايين وذلك لبساطة مظهرها وأريحية أجوائها فالبضائع لا تزيد أسعار أغلاها عن بضعة يوروات، كما أن معظمها صناعة محلية، ولا تخرج عن كونها كور زينة خفيفة مطلية بجانب بعض الأشكال والمجسمات لتجميل الأشجار معظمها من مخبوزات وفاكهة مجففة خاصة البرتقال مع كميات ضخمة من القرفة والقرنفل اللائي تشع ريحتهما النفاذة وتعم حتى الطرقات بالجنب، خاصة أنها أساس مشروب كالشاي يحبونه ساخنا حتى يكسب الزائر شيئا من الدفء سيما وأن هذه الأسواق تقام في ساحات مفتوحة تخترقها الرياح من كل الاتجاهات وأحيانا تنهمر ولا تتوقف الثلوج والغريب أنه وكلما زادت كمية الثلوج زاد عدد الزوار تفاؤلا بعيد ميلاد أبيض. من أجمل وأهدأ أسواق فيينا ذلك الصغير الذي يقام في الميدان الفاصل بين متحفي التاريخ الطبيعي والفنون التاريخية الجميلة وهو ميدان يقع في قلب البلد يتوسطه تمثال ضخم للإمبراطورة ماريا تريزا مقابلا لسوق أخرى أكثر شبابا يقام بمجمع المتاحف الحديثة كما هناك سوق أخرى أكثر كلاسيكية تقام بمنطقة مايرهوف التجارية الفخمة لا تبعد بدورها كثيرا عن السوق التي تقام داخل قصر البلفدير بالمنطقة الرابعة، أما السوق التي أعلن فوزها هذا العام سكان فيينا فهي السوق المقامة بقصر الشونبرون وهو القصر الصيفي للإمبراطورة ماريا تريزا التي كان لها 16 من الأبناء أشهرهم الإمبراطورة ماري أنطوانيت.
على الرغم من الإعجاب التي تحظى به سوق الشنوبرون التي لم يكتف بالبيع بل أضاف ورشا وبرامج للأطفال وألعابا موسيقية وأغاني وحكايات عن الكريسماس داخل القصر إلا أن كتب التاريخ تؤكد أن عادة الاحتفالات الضخمة الفخمة والبذخ والأشجار وتبادل الهدايا الغالية لم تكن عادة منتشرة كثيرا بالنمسا حتى داخل هذا القصر سيما في عهد آخر أباطرته الإمبراطور فرانز جوزيف وزوجه الإمبراطورة إليزابيث التي يناديها النمساويون باسم سيسي ويحلو لهم أن يشبهوها بالأميرة ديانا لجمال كل منهما وشقاء حياة كل منهما ونهايتها نهاية بشعة إذ تم اغتيال سيسي.
وكما جاء في مذكرات الأميرة فاليري فإن الاحتفال في حضرة والدها الإمبراطور فرانز جوزيف والإمبراطورة محفوفان بكبار المسؤولين بالدولة وحاشية القصر لم تكن ممتعة على الإطلاق وإنما رسمية متيبسة ومعقدة، شاكية أنها لم تستمتع باحتفال عيد الميلاد إلا بعد زواجها من الدوق فرانز سلفاتون وانتقالها بعيدا عن القصر، حيث نعمت احتفالاتها وأسرتها المباشرة بالكثير من المرح والفرح.
في سياق مواز كانت مصادر تاريخية قد أشارت لشح الإمبراطور فرانز جوزيف بشأن ميزانية الأعياد، وحتى ما كان يطلبه من هدايا كان بسيطا، ويقال إن طلبه اختصر مرة على علبة يحفظ فيها «البسكويت» توضع على مكتبه، كما أنه لم يتوسع في نطاق تقديم هدايا لحاشيته إلا بعد أن نصحته صديقة مقربة بذلك بعد أن وصلها علم أنه لا يفعل من جانبهم لم يبد بدورهم كثير من رجال الحاشية إعجابهم بتلك العادة الجديدة التي وصلت إلى فيينا من ألمانيا عام 1814 وكانت أول مرة تقام الاحتفالات حول شجرة مزدانة ومضيئة تحفها الهدايا والبذخ في أنواع الطعام. وفي تعليق قال الدوق يوهان إن الحرارة كانت لا تطاق بسبب كثرة الشموع كما أنه لم ير سرير المهد التقليدي بل شجرة وألعابا بعيدا عن أجواء التأمل والهدوء مما أشعره بأنه وحيد.