رافي شانكار أستاذ الموسيقى الهندية احتضن «البيتلز» وكلاسيكيات الغرب.. ورحل

وفاة عازف السيتار الأسطوري بعد حياة حافلة

رافي شانكار
TT

توفي مايسترو السيتار الأسطوري رافي شانكار، الذي وضع الموسيقى الهندية على الساحة العالمية وأصبح اسمه مرادفا لهذه الآلة الموسيقية، مؤخرا، عن عمر يناهز 92 عاما في أحد المستشفيات بالقرب من منزله في سان دييغو جنوب كاليفورنيا، بعد تدهور حالته الصحية منذ عدة أعوام. بدأ عملاق الموسيقى مشواره في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين، وفاز بجائزة «غرامي» 3 مرات بفضل أعماله الأسطورية مع عازف الكمان يهودي مينوهين وفرقة «البيتلز»، وكان آخر حفل موسيقي يؤديه يوم 4 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في مدينة لونغ بيتش بولاية كاليفورنيا مع ابنته أنوشكا. وفي الليلة السابقة لإجرائه عملية جراحية، تم منحه جائزة «غرامي» عن ألبومه الأخير بعنوان «جلسات غرفة المعيشة - الجزء الأول» (The Living Room Sessions، Part 1). وقد كان له تأثير كبير في الموسيقى الكلاسيكية، بما في ذلك تأثيره على الملحن فيليب غلاس، وساهم تعاونه مع مينوهين في ألبومات «لقاء الغرب والشرق» (West Meets East) التي قدماها معا أثناء الستينات والسبعينات في حصوله على جائزة «غرامي»، كما ألف قطع كونشيرتو بآلة السيتار وبأوركسترا كامل لكل من «أوركسترا لندن السيمفوني» و«أوركسترا نيويورك الفيلهارموني».

والسيتار هو عبارة عن آلة موسيقية وترية نقرية تستعمل بصورة أساسية في الموسيقى الكلاسيكية الهندية، ويعتقد أنها مستمدة من الآلة الموسيقية الهندية القديمة التي تدعى «فينا» (Veena)، ثم قام أحد الموسيقيين في بلاط المغول بتعديلها كي تتماشى مع أذواق أنصارهم الفرس، وتمت تسميتها على اسم آلة فارسية تحمل نفس الاسم (الذي يعني في الفارسية «الأوتار الثلاثة»). ومنذ ذلك الحين، تم إدخال الكثير من التغييرات على هذه الآلة، وقد ابتكرت آلات السيتار الحديثة في الهند أثناء القرن الثامن عشر، وهي تستمد رنينها من الأوتار التناغمية (sympathetic strings) وعنق طويل مجوف وخزانة ذات رنين تشبه القنينة.

وقد كان شانكار فنانا متعدد المواهب، حيث ألف موسيقى فيلم «غاندي» الذي أنتج عام 1982 ورشح عنها للفوز بجائزة الأوسكار، كما تعاون مع زوبين ميهتا، بالإضافة إلى تأليف الكثير من الكتب وإخراج بعض الأعمال المسرحية. وقد قام أيضا ببناء منزل ومركز موسيقي في الهند على طراز أديرة التعبد الهندية، لكي يعيش ويدرس فيه طلاب العلم. وبالنسبة لشخص غير من الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الموسيقى الكلاسيكية، من خلال منح آلة السيتار منبرا عالميا بين الخبراء والنقاد على السواء، فإنه لا يصعب تصور أن شانكار قد بدأ حياته راقصا في فرقة الرقص التي كان يملكها شقيقه الأكبر أوداي شانكار. وأثناء الجولة التي قامت بها فرقة أوداي في أوروبا وأميركا من أوائل الثلاثينات من القرن العشرين حتى منتصفها، اكتشف شانكار الموسيقى الكلاسيكية الغربية وموسيقى الجاز والسينما، كما تعرف على العادات الغربية. وبعد السفر حول العالم مع شقيقه في عمر صغير والبقاء لفترة طويلة في باريس، رحل شانكار إلى بلدة مايهار الصغيرة التي تقع في ولاية ماديا براديش الهندية كي يتعلم الموسيقى من الأستاذ علاء الدين خان، وهو مؤسس مدرسة مايهار للموسيقى الهندوسية، وكان معلما في غاية التدقيق والصرامة إلى درجة أنه كان يضرب ابنه - الأستاذ علي أكبر خان - إذا ما أخطأ في عزف علامة موسيقية واحدة. وسرعان ما تطور شانكار كعازف سيتار، إلى درجة أن خان زوجه بابنته أنابورنا ديفي، في زواج هندوسي إسلامي كان يعد أمرا نادر الحدوث في الأربعينات.

وقام عميد الموسيقى بتلحين أول مقطوعة له من موسيقى الراغا (Raga) عام 1945، ليستهل مشوارا من الإنتاج الموسيقي الغزير. وفي الخمسينات والستينات، أصبح السفير الدولي غير الرسمي للموسيقى الهندية، حيث فتن المستمعين في الاتحاد السوفياتي واليابان وأميركا الشمالية، مما أحدث ضجة كبيرة في الغرب من خلال تغيير القواعد الموسيقية بما يجعل موسيقاه أكثر قبولا عند الجمهور. وبلغت صلات شانكار الغربية أوجها في الستينات، وكانت فرقة «البيردز» هي أول من تأثر بموسيقاه، كما استمر ارتباطه بجورج هاريسون من فرقة «البيتلز» من الستينات حتى وفاة الأخير عام 2001. ورغم أن شانكار بدأ بإبعاد نفسه عن حركة «الهيبيز» منذ أوائل السبعينات، فإن ارتباطه بهاريسون ظل صامدا عبر الزمن. وفي عام 1973، سجلا معا ألبوم «أسرة شانكار وأصدقاؤه» (Shankar Family and Friends)، وقام هاريسون في ما بعد بكتابة السيرة الذاتية للمعلم رافي شانكار بعنوان «مختارات من موسيقى الراغا» (Raga Mala).

وبفضل تعاونه الطويل مع عازف الكمان يهودي مينوهين، والنجاح الكبير الذي حققه ألبومهما المشترك «لقاء الغرب والشرق» (عام 1967) بين عشاق الموسيقى، وارتباطه اللاحق بفرقة «البيتلز» - وخاصة جورج هاريسون، الذي أطلق عليه اسم «الأب الروحي للموسيقى العالمية» - لم يصبح السيتار آلة موسيقية عالمية فحسب، بل أثبت أيضا أن الموسيقى يمكنها عبور الحدود القومية والثقافية. وقد قام جورج هاريسون بشراء آلة سيتار، وتسجيل لحن «الغابة النرويجية» (Norwegian Wood)، المستمد في معظمه من مقطوعات موسيقى الراغا الهندية، كما قدم إلى الهند لتعلم العزف على آلة السيتار من رافي شانكار في كشمير. وقد فعل للموسيقى الكلاسيكية الهندية ما فعله الله ركها رحمن في السنوات الأخيرة للموسيقى الشعبية الهندية - إلا أن شانكار كان قد أصبح بالفعل سفير الموسيقى الهندية حينما ولد رحمن. وحتى اليوم، هناك الكثير من الموسيقيين غير الهنود الذين يقبلون على الأكاديميات الموسيقية المنتشرة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا - التي تكون في المعتاد قد تأسست على يد موسيقيين هنود - من أجل تعلمها، أو يقدمون على السفر إلى الهند لإتقانها.

وفي التصدير الذي كتبه للسيرة الذاتية التي نشرها رافي شانكار عام 1969 بعنوان «موسيقاي وحياتي» (My Music، My Life)، قال يهودي مينوهين الذي يعتبر أعظم عازف كمان في القرن العشرين: «من أجل بلوغ صفة السكينة الهندية، فإن الموسيقي الهندي يقدم تعبيرا شخصيا رفيعا عن الوحدة مع اللانهائية، كما في الحب اللانهائي. وهناك قلة قليلة من الملحنين المعاصرين في الغرب ممن بلغوا هذه الصفة، إلا أننا نبجلها في أعمال باخ وبيتهوفن وموتسارت. إذا استطاع موسيقيون هنود مثل رافي شانكار، ممن بدأوا بكرم بالغ نقل هذه العبقرية إلينا، مساعدتنا على العثور على هذه الخاصية مرة أخرى، فإنه سيكون لدينا الكثير مما ينبغي أن نشكرهم عليه». وليس من المألوف أن ترفع أسطورة مثل مينوهين أحد الموسيقيين إلى مستوى موتسارت وباخ. وقد نال شانكار الكثير من التكريمات على امتداد مشواره الطويل، من بينها وسام «رتبة الإمبراطورية البريطانية» من الملكة إليزابيث اعترافا بالخدمات التي قدمها إلى الموسيقى، وجائزة «بارات راتنا»، وهي أعلى جائزة مدنية في الهند، و«وسام جوقة الشرف» الفرنسي.

وقد كانت السكينة التي قدمتها موسيقى شانكار إلى الأجيال على النقيض تماما من نوعية العلاقات التي مر بها مع السيدات الكثيرات اللاتي دخلن حياته، حيث كانت علاقات مضطربة، وحطمت قلبه أكثر من مرة، وخلفت وراءها بعض الذكريات المريرة. ولكن رغم ذلك، فإن هؤلاء السيدات كن يرغبن في احتضانه ورعايته وإشعاره بالحب، لأنه كان حقا إنسانا فريدا من نوعه. ورغم زواجه من زوجته الأولى أنابورا ديفي وهو في سن 21 عاما، فإنهما لم يستطيعا إنجاح زواجهما، حيث بدأت الشقاقات تظهر على السطح من أواخر الأربعينات، إلا أنها طلقت منه في الثمانينات. ويقول البعض إنه تزوج بأنابورا، وهي ابنة الأستاذ علاء الدين خان، كي يتمكن من تعلم أسرار العزف على آلة السيتار، حيث لم يكن هذا ممكنا سوى للأقارب فقط، ويقال أيضا إن زوجته الأولى كانت لديها موهبة موسيقية أكبر من موهبته، كما يقال إن أنابورا ديفي سحبت نفسها تماما من العروض الجماهيرية بعد أن بدأ زوجها القيام برحلات مكثفة، ويقول الكثيرون إنها كانت ستغطي تماما على زوجها، وإن هذا هو السبب وراء ذلك القرار الواعي من جانبها. ويشعر الآخرون بأن شانكار أراد عن عمد أن يبقيها بعيدا لأنها كانت تفوقه بلا ريب، كما تبين في بعض الحفلات الموسيقية الثنائية (Jugalban) المبكرة التي عزفا فيها معا.

وأثناء زواجه الأول غير المستقر، دخل شانكار في عدد من العلاقات غير الشرعية مع راقصات وموسيقيات، حيث كان قد بدأ برؤية راقصة تدعى كمالا شاستري، التي يقال إنه كان لها تأثير كبير في حياته، ولكن تماما مثل أي غجري، فإنه لم يثبت حقا على امرأة واحدة وظل يتنقل من واحدة إلى الأخرى. ولم يكن شانكار يخجل من غرامه بالنساء، حيث ذكر في سيرته الذاتية: «كنت أشعر بأنه يمكنني أن أقع في حب نساء مختلفات في أماكن مختلفة. كان الأمر مثل أن تكون لديك فتاة في كل ميناء، وأحيانا كانت هناك أكثر من واحدة». وبينما كانت كمالا والمعلم الموسيقي يعيشان معا مثل «الزوج والزوجة» حتى عام 1981، دخل الرجل أيضا في علاقات عاطفية مع سيدتين مختلفتين، وكل واحدة منهما أنجبت منه ابنة. وفي نيويورك، عاش شانكار مع مخرجة حفلاته الموسيقية سو جونز وأنجب منها طفلته نورا، التي ولدت عام 1979 وفازت بعد ذلك بجائزة «غرامي» 8 مرات. ولم يكن في مقدور شانكار أن يدعي أي فضل له في ذلك سوى صلة النسب، حيث تولت والدتها تربيتها بمفردها، ويبدو أنها لم تقم اتصالا منتظما بعائلة والدها سوى بعد أن أصبحت نجمة موسيقية عالمية.

وفي هذه الأثناء، التقى عام 1972 موسيقية شابة تدعى سوكانيا راجان، ورغم أن الاثنين كانا على علاقة بأشخاص آخرين (حيث كانت سوكانيا متزوجة، بينما كان شانكار على علاقة بكمالا شاستري كما كان يواعد سو جونز)، فقد أقاما علاقة بينهما عام 1978، وأنجبا ابنة هي أنوشكا عام 1981، وكانت أنوشكا هي الأخرى عازفة سيتار عظيمة، ورغم أنهما كانا يحبان بعضهما البعض، فإنهما لم يدخلا كنف الزوجية إلا بعد أن بلغت أنوشكا 8 أعوام. وقد ذكرت سوكانيا شانكار في حوار إعلامي أجري معها: «كان في الـ58 من عمره حينها، وقد أخبرني بأنه لا يمكن أن يتغير. أدركت أنني غارقة في الحب... لم أكن أهتم حقا. حتى إذا منحني بضعة أيام في العام، كان ذلك جميلا. كانت تلك التجربة تساعدني على اجتياز العام بأكمله».

وعندما قرر شانكار الزواج بسوكانيا، قررت سو أن تقطع علاقتها به وأن تحرمه أيضا من رؤية ابنته نورا، وفي ذلك الوقت، كانت علاقته التي امتدت لعقدين كاملين بكمالا شاستري قد انتهت هي الأخرى. وفي عام 1988، تزوج رافي شانكار بسوكانيا وعثر معها على الاستقرار الذي ظل أعواما طويلة جدا يتوق إليه. وتختم سوكانيا حديثها قائلة: «رافي لم يعش أبدا حياة أسرية حقيقية. لقد كان صغيرا جدا عندما تزوج لأول مرة. وعندما ساءت الأمور وجرح قلبه، لجأ إلى الارتحال في الخارج. لقد كان غجريا. بالطبع، كانت هناك العمة كمالا (شاستري)، إلا أنها هي الأخرى منحته الحرية. كنت أريد أن أمنحه البيت الذي لم يحصل عليه أبدا». وعلى طريقة نجوم الروك الحقيقيين، فإن رافي شانكار لم يكن يؤمن بإبقاء حياته الخاصة طي الكتمان.