منافسة بين الألمان والنمساويين حول أصل شجرة عيد الميلاد

احتفالات أعياد الميلاد في النمسا تبدأ قبل 4 أيام ويتناولون وجبة من البط أو الإوز

محل حلويات في العاصمة النمساوية فيينا يعرض منتجات خاصة باحتفالات أعياد الميلاد (أ.ف.ب)
TT

ما بين النمساويين وجيرانهم الألمان علاقة «حب وكره» بحكم كثير من الروابط، أهمها اللغة والثقافة والتاريخ والمنافسة والغيرة وأمور أخرى، مثل حقيقة أن هتلر نمساوي انتقل إلى ألمانيا، وأن بيتهوفن ألماني انتقل إلى النمسا.

ومما يتنازع حوله بعض الأفراد في الشعبين أصل عادة تزيين شجرة كرمز للاحتفال بعيد الميلاد، وحسب ما يقول الألمان، فإن ذلك التقليد انتقل من ألمانيا إلى النمسا، حتى ولو أصبغ عليه النمساويون كثيرا من رومانسيتهم كالتفاف العائلة حول الشجرة وبدء الاحتفال بأغنية «ليلة صامتة» التي أصبحت أشهر الأغاني، ويعود تاريخها لعام 1818، عندما تفاجأ قس كنيسة قرية أوبرن دورف بعطب أصاب أورغن الكنيسة بسبب الفئران بينما القداس على وشك أن يبدأ؛ فما كان من عازف الغيتار فرانز غروبر إلا أن ألف سريعا كلمات دافئة استوحاها من قصة مولد المسيح، قام بترديدها في لحن بسيط ذاعت شهرته ولا يزال يتردد صداه عاما بعد عام.

مما يلفت الانتباه أن النمساويين لا ينتظرون حتى ليلة الميلاد للاحتفال؛ إذ يبدأون قبل 4 أيام بتزيين إكليل من النبات الأخضر يضعون في وسطه 4 شمعات حمراء يعلقونه ظاهرا في سقف غرفة المعيشة، وكل يوم أحد يقيدون شمعة.

بحلول اليوم الخامس من ديسمبر (كانون الأول) ينزل للطرقات شبان أقوياء يرتدون أقنعة قبيحة مخيفة لها قرون وأسنان بارزة ويحملون سياطا مجسمين بمظهرهم المخيف المثير ذلك هيئة كرامبوس؛ التوأم الشرير للقديس الطيب نيكولاس، الذي يصل بعده بيوم على هيئة رجل وقور حلو الطيب والمعشر.

وبينما يقوم كرامبوس بتأنيب المشاغبين من الصغار وتوبيخهم يقوم القديس نيكولاس بمكافأة «الشطار والحلوين» ممن يجتهدون في دروسهم ويطيعون ذويهم ويساعدون الغير؛ فيتلقون هدايا محببة عبارة عن كيس من الورق بداخله تفاحة وبرتقالة وبضعة حبات من اللوز والجوز ومجسم للقديس نيكولاس من الشوكولاته.

تقول المراجع إن القديس نيكولاس عاش في القرن الخامس الميلادي وإنه أثناء الليل كان يقوم بتوزيع الهدايا للفقراء والمعوزين دون أن يعلموا من أين جاءت. إلى ذلك يعتقد كثير من الأطفال النمساويين أن «طفل الميلاد» هو الذي يزين الشجرة، وأنه هو الذي يمنحهم الهدايا.

من جانبهن، تحرص الأمهات النمساويات والمربيات والمعلمات بالحضانات على تجسيد صورة القديس نيكولاس في أذهان الصغار، بدلا عن صورة بابا نويل الأميركي، حماية لتقاليدهم وعاداتهم، وفي ذات السياق هناك كثيرون ممن يعترضون على ظواهر البذخ والمغالاة في تبادل الهدايا بصورة أوشكت أن تحول أيام الأعياد إلى موسم تسوق.

في هذه الأثناء، تتواصل الاحتفالات داخل أسواق أعياد الميلاد التقليدية الشعبية البسيطة التي تزين الفسحات العامة نورا وحبورا بأجوائها الاحتفائية المرحة، حيث يتم اختيار طفل الميلاد «كريس كيند» بملابسه البيضاء وأجنحته الملائكية في رمزية للمسيح، حتى وإن تم اختيار صبية، وعادة يتجول طفل الميلاد داخل السوق مبتسما محييا للكبار مجيبا على تساؤلات الصغار، ويقومون بالتقاط صور له معهم، وفي لمحة من لمحات العولمة أصبح من شروط المنافسة لاختيار طفل الميلاد أن يكون مجيدا للغة الإنجليزية، حتى يسهل تواصله مع أكبر قطاع من السياح الأجانب الذين يعمرون هذه الأسواق.

نهار عشية الميلاد، يسرع الجميع لإكمال ما لم يكتمل من الاستعدادات، وانتقاء هدايا آخر لحظة، بينما تكون الأم مشغولة بإعداد وجبة العشاء الرئيسية، التي يفضلها النمساويون تقليديا؛ إوزة أو بطة كبيرة محشوة ومحمرة تشبع العائلة بأكملها.

يكون الحشو عادة كمية مختارة من الخضروات، في مقدمتها حبات بطاطس وجزر وتفاحة وبرقوق (لإكساب طعم حلو و«مزز»)، بالإضافة لحفنة خضراوات تباع جاهزة على شكل ربطة لنكهة مميزة تزيل الزفارة.

ما قبل النضج يمسح الطائر جيدا بخليط من «الصلصة» مع خل وملح وصولا للون ذهبي يلمع، وعند تقديمه يأتي مصحوبا بأنواع من السلطات أهمها سلطة البطاطس وسلطة الكرنب وسلطة الخس، ومنه ما يحتوي على الخضراوات الحمراء، وآخر مظلل تجمّله وحدات من الطماطم المدورة الصغيرة شديدة الحمرة.

عموما يعتبر النمساويون من الشعوب أكلة البطاطس بمختلف أنواعها وأشكالها سواء محمرة ومسلوقة ومطبوخة، ولكل نوع بطاطس خاصة، باعتبارها الأفضل والأنسب. ولا تخلو مائدة عشاء يوم الميلاد من نوعين، أهمهما سلطة البطاطس المسلوقة التي يتم إعدادها بخلطها مع قليل من البصل مشوحا في الزبد ثم خلّ مضاف إليه قليل من الملح والسكر، وهكذا تتبل وتترك لفترة حتى تتشرب الطعم، أما النوع الآخر، فهو البطاطس المسلوق المهروس ناعما مضافة إليه كمية من اللبن، وقليل من الملح والكريمة أحيانا.

أما تحلية عشاء ليلة الميلاد، فغالبا ما تكون من موس الشوكولاته بالإضافة لكميات من الكعك والمخبوزات خاصة تلك البسكويتات الصغيرة التي يضيفون إليها الجنزبيل والقرفة «ليب كوخن»، ويعود ثراء المطبخ النمساوي وتنوعه لتوسعهم يوم كانوا إمبراطورية وصل نفوذها حتى أميركا اللاتينية، بجانب ما أخذوه من المطبخ الشرقي عن طريق الجنود الأتراك، ممن حاولوا غزو فيينا مرتين، وعسكروا حولها، وأن فشلوا في اقتحامها.

ومما يقال إن أول حبوب «بن» كانت من نصيب جاسوس تغلغل وسط حشود الجيش التركي ونقل معلومات ساهمت في إنقاذ فيينا، وكمكافأة طلب جوالات حبوب شاهد الأتراك يحمصونها ويشربونها.

كالعروس تظل شجرة عيد الميلاد محجوبة عن الأنظار حتى لحظة خروجها للملأ المتشوق، بعد رنين جرس يضربه سيد البيت معلنا عن الكشف عنها، فتظهر جميلة منورة ولا يتم فض الهدايا إلا بعد العشاء الذي يكون أسريا بحتا ولأقرب المقربين ممن يقضون الليلة بعد قداس منتصف الليل بالبيت الكبير، لتتواصل الاحتفالات بوجبة غداء قوامها السمك في أغلب الأحيان.

نهار ليلة الميلاد تظل فيه الأسواق مفتوحة في حركة مستعجلة لا تفتر حتى الخامسة، وبعدها تغلق أبوابها وتنعدم الحياة خارج المنازل بصورة شبه تامة إذ لا سينمات ولا مسارح ولا مقاهي. سكون تام ولن يتجول في الطرقات والأرصفة الصامتة المضيئة غير سائح أو غريب.