حفل موسيقي كلاسيكي في أول أيام العام الجديد رسالة سلام ومحبة من النمسا للعالم

وداعا ليوم 31 ديسمبر واستقبالا لـ 1 يناير

TT

بأصوات عالية وموسيقى شبابية صاخبة، ودعت فيينا العاصمة النمساوية مساء أمس العام الماضي 2012، وسرعان ماعادت صباحا وديعة هادئة كدأبها دائما لتستقبل بموسيقى كلاسيكية معتقة وحلوة العام الجديد 2013.

في كلتا الحالتين، سواء الضجيج والازدحام والألعاب النارية والموسيقى الحديثة أم الهدوء والنظام والثراء والموسيقى الحالمة، تظل فيينا مميزة، كما تظل احتفالاتها ذات نكهة وعبق خاص.

تبدأ فيينا منذ صبيحة أمس مراسم وداع العام، فالمدينة لن تنتظر حتى يحل المساء بل تمتلئ طرقاتها وأرصفتها والميادين مبكرا بمختلف الفرق الموسيقية الصاخبة التي تعزف وتغني أغنيات الجاز والبلوز والروك والبوب والهيب هوب وحتى السامبا، وغيرها من روائع الشعوب اللاتينية الحارة، جنبا إلى جنب فرق من مختلف الموسيقيين بمختلف الجنسيات، لتصل الاحتفالات ذروتها منتصف الليل، مصحوبة بألعاب نارية ومفرقعات، ثم تهدأ المدينة بضع سويعات، يتلاشى فيها الضجيج، وتزال آثاره ومخلفاته سريعا في ساعات مبكرة من صباح اليوم، مفسحة المجال لنوع آخر من الإبداع الموسيقي نمساوي الهوية، كعرف بدأ أساسا إبان سنوات صعبة مرت بها النمسا بعد الاجتياح النازي، بقصد تذكير الأمة بالأيام الجميلة، ثم تحول مع الاستقرار والزهاء والرخاء إلى رسالة سلام ومحبة ترسلها النمسا لشعبها والعالم أجمع تهنئة بالعام الجديد.

تهنئة لا تتضمن كلمات ومفردات، بل أنغاما وألحانا منها الفالس والأوبريت والبولكا والمازوركا والمارش، كمجموعة مختارة يتم الإعلان عنها مبكرا ضمن مؤلفات موسيقية، أبدعتها أنامل عائلة واحدة هي عائلة «شتراوس»، وقوامها المؤلف والملحن الموسيقي النمساوي يوهان شتراوس الأب، ويوهان شتراوس الابن، وشقيقاه إدوارد وجوزيف، وأحيانا فقط لمناسبات بعينها تتم إضافة معزوفات لكبار المؤلفين النمساويين الآخرين، ومنهم أعلام مثل موتزارت وهايدن.

أول حفل موسيقي من هذا القبيل كان بتاريخ 31 - 12- 1939، ومن ثم تحول لليوم الأول من يناير (كانون الثاني) تمام الساعة 11 صباحا بصالة الميوزيك فراين، تحييه فرقة فيينا فيلهارمونيكا - أشهر فرق الموسيقى الكلاسيكية عالميا والأولى أوروبيا.

حفل يعتبر حضوره من المحظوظين، ليس فقط لسعة جيوبهم التي تمكنهم من دفع ثمن تذكرة يصل سعرها رسميا إلى 3500 يورو، وعند التنقيب في الشبكة العنكبوتية وجدت من يعلن عن بيعها بمبلغ 5.800.000 دولار وحتى مواقع الوقوف يتراوح ثمنها بين 350 إلى 150 يورو، وإنما لمحدودية تلك البطاقات وصعوبة الحصول عليها، إذ تباع سنويا خلال الفترة من 2 إلى 23 يناير عن طريق القرعة أو اليانصيب.

ولنستهل باحتفالات فيينا لوداع العام، التي تبدأ منذ صبيحة 31 - 12 عندما لا تمسي أزقة قلب فيينا الإمبراطوري القديم مجرد أزقة هادئة، بل تتحول ساعة وراء ساعة إلى مسارات، تفيض بمشاة يطرقونها بحثا عن مخارج علها تقودهم سريعا للميادين والساحات الواسعة حيث الاحتفالات وحيث تتوافر أكشاك أطعمة خفيفة يلتهمونها وقوفا (على الماشي)، منها ما هو نمساوي كالسجق، ومنها ما هو آسيوي كالنودلز في صناديق ورق، وما هو فرنسي كالكريب، كما هناك حبات بطاطس كبيرة الحجم، تخبز وتشق ساخنة بمهارة من النصف لتحشى بالجبن فتبدو كأنها «جاكت» أصفر اللون لذيذ وأنيق.

نحو الثانية بعد الظهر، وفي قلب الساحة أمام كبرى الكاتدرائيات النمساوية «كنيسة سان شتيفان»، تنتظم دروس رقص سريعة لتعليم جموع السياح وكل من يشاء مجانا لإتقان أسس خطوات رقصة الفالس - أشهر الرقصات النمساوية - استعدادا لآخر حفل من حفلات العام.

وكما هو الحال، عاما بعد عام، يتضاعف عدد الحضور داخل هذا المثلث التاريخي أمام قصر الهوفبورغ، المقر الشتوي لأباطرة الهابسبرغ، وليس بعيدا عن أفخم المقاهي «ديميل» ووسط ساحة القرابن، وعلى طول أشهر الشوارع «كيرتن شتراسا»، وفي أكثر من موقع وساحة من المدينة، حيث يتم قبل أن ينتصف النهار نصب المسارح وتركيب الميكرفونات، وتعلو أصوات فنيين وهم يجرون عمليات الاختبار، مطرقعين بأصابعهم (1: 2: 3، مرددين: هاللو هاللو، هل تسمعونني؟ هل الصوت عال بما يكفي؟)، فتتطاير ردود فعل الحضور بالإيجاب، والكل في حماس ينتظر ظهور الفرقة حتى ينخرط كثيرون في الرقص؛ بعض حسب الأصول وفق خطوات مدروسة، وبعض على هواه كيفما تماشت خطواته والنغم، بينما الجميع في حالة حركة دائمة.

من جانبها، تعمل المراكز التجارية والأسواق حتى السادسة مساء، علها تحظى بأكبر عدد من المتسوقين، سيما السياح ممن يصلون المدينة في رحلة لا تتعدى هذا اليوم وعلى الأغلب اليوم التالي، كما لا تغلق مطاعم أبوابها البتة حتى الصباح، ومع ذلك يظل الحصول على مقعد خال، دون حجز سبق، أمرا شبه مستحيل في معظمها. وهكذا هو الحال في مطاعم الفنادق الكبرى التي تستغل المناسبة فتعد قوائم عشاء بضعف الثمن دون شك.

وبينما يتضاعف العدد في الطرقات الرئيسية التي يتم تخصيصها للمشاة فقط، يتم لاحقا إغلاق مؤقت لمحطات قطار الأنفاق المؤدية لقلب المدينة؛ كمحطة شتيفان بلاتز وكارلس بلاتز، في محاولة لتقليل الضغط على منطقة مثلث كيرتن أشتراسا المتفرع إلى القرابن وساحة كنيسة القديس أستيفان. ومع اقتراب منتصف الليل، تمسي الحركة شبه مستحيلة، لاكتظاظ هذه المنطقة بالذات بالمحتفلين، لدرجة أن الشرطة تنصح بعدم اصطحاب الرضع من الصغار ممن تدفعهم الأمهات في عربات، بينما تزداد حدة الضجيج، وهؤلاء يطلقون صواريخ وألعاب نارية، وأولئك يضربون مدافع، وآخرون يصفرون، وبعض يزمر، وهناك من يصفر، بينما عدد المفرقعات والزمامير أخذ في زيادة، فتعلو الأصوات لدرجة الصراخ، جنبا إلى جنب أصوات الغناء والموسيقى التي تنطلق من كل حدب وصوب، ليس من الفرق ومغنيها، بل حتى من الحضور، كل بلهجته ولغته، مما يحدث ضجيجا وصخبا، لا تعرفه فيينا مطلقا غير اليوم الأخير من كل عام.

مع بدء العد التنازلي للساعة 12 منتصف الليل، يشتعل سماء فيينا في أكثر من اتجاه، مضيئا بألعاب نارية رائعة ومثيرة ومتجددة، وما إن تدق أجراس الكنائس معلنة نهاية العام حتى تنطلق الجموع في فرح غامر وبلغات شتى، مهنئة بعضها البعض، والكل مبتهج متفائل بحلول عام جديد.

وبينما تكتفي قلة بهذا القدر من «الانبساط»، تنتقل جموع أخرى راجلة من منطقة المثلث ومن مدينة الملاهي «ألبراتا» ومن نواحي الدانوب وغيرها، في اتجاه ساحة مبنى البلدية«الرات هاوس» التي تتحول لأكبر ساحة رقص غير مسقوفة، إذ تقصدها حشود وحشود من أولئك، وممن يبدأون احتفالهم داخل قاعات أو مسارح أو نواد، وأيضا ممن يفضلون عشاء عائليا مبكار ثم يختتمون عامهم بالخروج للشوارع والساحات مع الجموع لمزيد من الموسيقى والغناء والصخب.

ما بعد الثانية صباحا، ورويدا رويدا، يبدأ برنامج العودة للمنازل باستخدام قطارات الأنفاق، التي تظل تعمل دون كلل أو ملل.

اليوم الأول من يناير، وكما هي عادتها، تصحو المدينة مع يوم جديد من عام جديد على أنغام الحفل الموسيقي الكلاسيكي التاريخي المعتق، وفق برنامج دقيق تنقله أجهزة الإعلام، مسموعة ومرئية، في أكثر من 72 دولة أخذة في ازدياد، منها سوزازي لاند، وبوتسوانا، ونامبيا، وزيمبابوي، وتشيلي، والإكوادور، وبوليفيا، والصين، واليابان.

يستمر الحفل لمدة ساعتين ونصف، ويتضمن كل عام مقطوعات مختلفة من الإنتاج الغزير المتوافر لآل شتراوس، وإن أصبح تقليدا لا يحيدون عنه سنويا أن تكون المقطوعة الثانية هي الدانوب الأزرق، التي ألفها عام 1866 يوهان شتراوس الابن والتي يسبقها «المايسترو» بصحبه العازفين بتقديم التهنئة للحضور، كما يختتم الحفل بمقطوعة راديزكي مارش، التي ألفها يوهان شتراوس الأب عام 1848 بمناسبة عودة الفيلد مارشال راديتزكي منتصرا في معركة حربية، فجاءت نغماته خفيفة جزلة، وكان أن تفاعل معها الجنود يومها بالتصفيق والطرقعة والخبط بالأقدام، وهكذا سار الحال بين الحاضرين الذين يستمتعون بالمشاركة، مصفقين تصفيقا حلوا موزونا ومرحا بحماس وفق تعليمات المايسترو الذي يتعين عليه لحظتها أن يقودهم تماما كما يقود فرقته.

يقود فيينا فيلهارمونيكا لحفل 2013 المايسترو فرانز فيلسر موست، قائد فرقة دار الأوبرا، ويعتبر هذا حفله الثاني، وعموما لا تقتصر قيادة الفرقة على النمساويين فقط، بل سبق أن قادها أجانب تماما كحال دار أوبرا، ولا يتميز الحفل بموسيقاه فقط، بل يتم تجميل القاعة، التي تعتبر في حد ذاتها من أجمل القاعات الموسيقية عالميا، بكميات وافرة من الورود والزهور وأفرع وأوراق نباتات، تهديها سنويا مدينة سانريمو ليغوريا الإيطالية، وفي الختام يتم إهداء تلك الورود للسيدات من الحضور للاحتفاظ بها كتذكار عند مغادرتهن.

ومن التقاليد الأنيقة المصاحبة لهذا الحفل كذلك، تقديم لقطات لرقصات باليه رشيقة منتقاة، يتم نقلها تقنيا من القصور الباروكية الفخمة، مثل قصر البلفدير ودار الأوبر وقلعة إيستر هازي، في لمحة سياحية زكية تتناسق تماما وأجواء الحفل، الذي صار من أهم الأحداث الموسيقية الثقافية والاقتصادية وحتى السياسية، إذ يصطحب الرئيس معه كبار زواره.