بريطانيا: 20 مليون جنيه إسترليني لبحوث البيولوجيا الصناعية

مخاوف من سوء استغلال هذا العلم الناشئ والواعد

TT

من بين مجالات البحوث العلمية العالمية الناشئة حديثا والواعدة، مجال البيولوجيا الصناعية أو التركيبية، التي يمكن وصفها على نطاق واسع بأنها تصميم وبناء مسارات بيولوجية صناعية جديدة أو كائنات حية أو أجهزة أو إعادة تصميم النظم البيولوجية الطبيعية القائمة. ويهدف هذا المجال إلى تصميم وهندسة أو تكرار (تناسخ) النظم البيولوجية، الأمر الذي يتيح إمكانات هائلة للعلماء والباحثين لفهم أفضل لكيفية عمل النظم البيولوجية الطبيعية، وخلق مواد بيولوجية صناعية (تركيبية) لا توجد في العالم الطبيعي، ويرى العديد من العلماء أن هذا المجال الحديث، سوف يحدث ثورة في علوم الحياة وتطبيقاتها في كثير من المجالات، مثل الرعاية الصحية والطاقة. ولكن رغم هذه الآفاق الواعدة، فإن هذا المجال يثير أيضا بعض المخاوف والقضايا الأخلاقية والمسائل المتعلقة بالأمن البيولوجي والسلامة البيولوجية.

ومؤخرا، أعلنت الحكومة البريطانية عن استثمارها مبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني في بحوث البيولوجيا الصناعية، وذلك بهدف المساعدة في مواجهة التحديات العالمية الرئيسية، مثل إنتاج وقود منخفض الكربون، والحد من تكلفة المواد الخام الصناعية، وإنتاج أدوية جديدة.

وهذا الاستثمار الهائل، ووفقا لما نشر على الموقع الإلكتروني لوزارة الأعمال والابتكار والمهارات البريطانية، سيدعم 6 مشاريع بحثية جديدة في مجال البيولوجيا الصناعية في جامعات ومراكز بريطانية هي: مانشستر، ووارويك، ونوتنغهام، وغلاسكو، وإكستر، ومركز جون إينيس الدولي للتميز في علوم النبات والميكروبيولوجي (الأحياء الدقيقة) في مدينة نورويتش البريطانية.

وقال وزير الجامعات والعلوم البريطاني ديفيد ويليتس، إن «البيولوجيا الصناعية يمكن أن توفر حلولا للتحديات العالمية التي نواجهها، حيث تقدم فرص نمو كبيرة في مجموعة من القطاعات المهمة من الصحة إلى الطاقة، ومع ذلك، فالاستغلال التجاري للعلوم الأساسية في هذا المجال قاصر إلى حد كبير»، وأضاف أن «الاستثمار في هذا المجال جزء من التزام الحكومة لجعل المملكة المتحدة رائدة على مستوى العالم في بحوث وتطبيقات البيولوجيا الصناعية، وسوف يساعد ذلك على ضمان تحقيق الأوساط الأكاديمية والصناعة لكامل إمكاناتها».

يذكر أن الحكومة البريطانية تستثمر بالفعل في بحوث وتسويق البيولوجيا الصناعية، فمؤخرا خصص المجلس البريطاني لبحوث العلوم البيولوجية والتكنولوجيا الحيوية، والمجلس البريطاني لبحوث العلوم الفيزيائية والهندسية، والمجلس البريطاني لاستراتيجية التكنولوجيا، مبلغ 10 ملايين جنيه إسترليني، لإنشاء مركز الابتكار والمعرفة في البيولوجيا الصناعية، وذلك بهدف تشجيع التعاون بين الأوساط الأكاديمية والصناعة للمساعدة في ترجمة العلوم الأساسية للبيولوجيا الصناعية في مجموعة واسعة من التطبيقات التجارية. كما أنه في عام 2012، استثمر المجلس البريطاني للعلوم البيولوجية والتكنولوجيا الحيوية، مبلغ 4 ملايين جنيه إسترليني في جامعات أكسفورد، وساوثهامبتون، لتطوير منصة تكنولوجيا جديدة لإنتاج أحماض نووية صناعية. كما أن المجلس البريطاني للعلوم الفيزيائية والهندسية، قدم تمويلا قيمته 5 ملايين جنيه إسترليني لجامعات بريطانية هي كامبريدج وأدنبره ونيوكاسل و«أمبريال كوليدج» بلندن و«كينغز كوليدج» بلندن، للمساعدة في إنشاء منصات التكنولوجيا اللازمة للتطبيقات التي يتم إنتاجها وتسويقها. كما أن المجلس البريطاني لاستراتيجية التكنولوجيا، قد استثمر مبلغ 6.5 مليون جنيه إسترليني، لتشجيع الشركات على استكشاف التطبيقات الصناعية الجديدة للبيولوجيا الصناعية، وذلك جزءا من برنامجها للتكنولوجيات الناشئة والصناعات. وقد اتخذت جميع هذه المبادرات، لتكون البناء الأساسي لنجاح المملكة المتحدة مستقبلا في تسويق البيولوجيا الصناعية.

يذكر أن علم البيولوجيا الصناعية (Synthetic Biology)، يعد أحد علوم القرن الحالي الواعدة بالسيطرة على أنظمة حية بالكامل لتغيير الكائنات الحية الموجودة أو ابتكار كائنات حية جديدة، وغالبا ما يوصف هذا العلم على أنه تصميم كائنات حية من العدم، باستخدام علم البيولوجيا الجزيئية وعلوم الكومبيوتر ومبادئ الهندسة، وذلك من أجل فهم أفضل للعالم الحيوي وتصميم منتجات جديدة مفيدة. فمن خلال هذا العلم سوف يصبح من الممكن استخدام ثاني أكسيد الكربون مصدرا للحصول على الطاقة النظيفة والرخيصة وبكميات كبيرة، وبالتالي المساعدة على خفض نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو. وكذلك استخدام هذا العلم في توفير مصادر متعددة لتوفير الغذاء وكذلك في مجال الصحة وتوفير كثير من الأدوية. فعلى سبيل المثال، من الإنجازات المبكرة في مجال البيولوجيا الصناعية، استحداث عقار «الأرتيميسينين» لمكافحة الملاريا، وكذلك إنتاج الإنسولين البشري المخلق بيولوجيا، الذي تم عرضه للبيع لأول مرة عام 1982.

ولكن رغم الآفاق الواعدة لعلم البيولوجيا الصناعية، فإن هناك كثيرا من المخاوف من الأخطار والآثار الاجتماعية والأخلاقية المحتملة لسوء استخدام واستغلال هذا العلم، حيث يخشى المعارضون والمتخوفون، أن تؤدي التجارب والبحوث فيه إلى التلاعب في العالم الطبيعي، حيث يمكن أن تتسرب هذه الكائنات الصناعية إلى الطبيعة، وتتسبب في تدمير البيئة أو تستخدم في صناعة أسلحة بيولوجية. فقد حذرت، على سبيل المثال، مجموعة الضغط «إي تي سي» (ETC Group) الكندية، في تقريرها الصادر في يناير (كانون الثاني) عام 2007، بعنوان «الهندسة الجينية المتطرفة: مقدمة في البيولوجيا الصناعية»، من أن علم البيولوجيا الصناعية، رغم أنه يهدف إلى التوصل إلى أدوات رخيصة وسهلة وواسعة الانتشار، فإن إنتاج كائنات حية صناعية يطرح تهديدات خطيرة للبشر وللبيئة، والخطر لا يكمن فقط في الإرهاب البيولوجي، وإنما أيضا في الخطأ البيولوجي. ويقول بات موني، المدير التنفيذي لمجموعة «إي تي سي»، إنه «على الرغم من أن معظم الأفراد لم يسمعوا على الإطلاق بالبيولوجيا الصناعية، فإنها تمضي بكامل سرعتها إلى الأمام، وتشعلها أعمال الزراعة العملاقة والطاقة والمؤسسات الكيميائية، مع وجود قليل من الجدل بشأن من سوف يسيطر على هذه التكنولوجيا، وكيف سيتم تنظيمها».

وفي تقرير خاص لمجلة «نيوساينتست» العلمية البريطانية، في عددها الصادر في 20 مايو (أيار) عام 2010، أكد البروفسور جورج تشارش أستاذ الجينات وقائد منصة البيولوجيا الصناعية في كلية الطب بجامعة هارفارد الأميركية، والمعترف به عالميا لإسهاماته المبتكرة في علوم الجينوم، على أهمية وضع قائمة بجميع المعامل التي تقوم بإجراء تجارب تتعلق بتخليق حياة صناعية، ونادى بضرورة ترخيص هذه المعامل. كما أكد تشارش لمجلة «نيتشر» العلمية البريطانية على موقعها الإلكتروني في 20 مايو 2010، على أهمية وضع الضوابط التي تمنع تسرب أشكال حياة خطرة. وأشار إلى أنه في ما يتعلق بالخطأ البيولوجي، فإنه لا بد من الترخيص والمراقبة عن طريق الكومبيوتر، أما بالنسبة للإرهاب البيولوجي، فلا بد من توحيد النظام الحيوي البيئي للمعامل لاختبار قدرة الجينوم الصناعي الجديد على أن يستمر أو يستبدل الجينات في الطبيعة.

تقول منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، على موقعها الإلكتروني، إن السبب الذي يجعل التكنولوجيات الجديدة الخاصة بالكائنات الحية تستقطب قدرا كبيرا من الاستثمارات هو أنها قد تؤدي إلى تطبيقات ثورية من شأنها أن تفضي حسب أقوال مروجيها إلى حل للمشكلات البيئية الخاصة بالقرن الحادي والعشرين. وتدل أنواع الوقود الحيوي والبلاستيك الحيوي والمنتجات الكيميائية المستخرجة من الموارد البيولوجية الطبيعية على أن الاقتصاد سيرتكز في المستقبل على الكائنات الحية. وتفيد منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، ومقرها باريس، بأن حجم السوق العالمية للتكنولوجيا البيولوجية الصناعية قد يناهز 300 مليار يورو سنويا بحلول عام 2030، أي إنه سيرتفع بما يتراوح بين خمسة وستة أمثال مقارنة بما هو عليه اليوم. وتزداد الضغوط لاستكشاف ثروات التنوع البيولوجي والاستفادة منها، وزيادة معدل إنتاجية النباتات وإنتاج مواد متنوعة باستخدام الأصناف النباتية والحيوانية والكائنات المجهرية، واستخدام كائنات صناعية يمكن أن تؤدي وظائف جديدة وإنتاج لحوم صناعية.. وما إلى ذلك. فالهدف هو تأمين الغذاء لتسعة مليارات شخص بحلول عام 2050، وتلبية احتياجاتهم من حيث الطاقة والمواد.

وتتساءل منظمة «اليونيسكو»: «من سيشرف على هذه العمليات؟ ومن سيستفيد منها؟ وما الآثار التي ستترتب عليها؟ وهل ستكون لها انعكاسات يتعذر التنبؤ بها اليوم؟»، إنها أسئلة لا بد من الإجابة عنها لتحقيق الأهداف المرجوة.