النص هو البطل.. والعودة إلى «المسرح المسرح»

الكاتب اللبناني أنطوان غندور.. يقدم لنا وطنا

مشهد من المسرحية
TT

«نقدم لكم وطن» لأنطوان غندور، مسرحية تروي أحداثا كانت مجهولة بالنسبة للكثير من المؤرخين. هذه الأحداث، جسّدها «النص» بتفوق، فأبرز عادات، تقاليد ومآسي «حرب الاربتعش» (1914)، وأثبت أنه - أي النص - يستطيع أن يكون البطل. يخرجنا الكاتب من مآسي تلك المرحلة بضحكات خففت كثيرا من هول المجاعات، ومن مآسي النكبات، فلا يسعك وأنت تشاهد المسرحية أن تميز شعورك: هل أنت في مأساة أم في ملهاة، أنت تبكي أم تفرح، ولكن بكل تأكيد يأخذك تنافس الحزن والفرح إلى مواقف مؤثرة تطرح الأسئلة الكثيرة حول تلك الفترة، التي أوصلت إلى هذه المرحلة التي يعيشها اللبناني اليوم.

المسرحية تنقل حقبة من تاريخ لبنان، وهي تمتد من سنة 1912، إلى حين خروج العسكر العثماني من البلاد سنة 1920، من خلال مطالبة البطريرك الماروني إلياس الحويك، بما يملك من حنكة ودراية لتحقيق وطن قادر على الاكتفاء الذاتي لاعتقاده بأن القدرة الذاتية تدعم نيل استقلال الوطن، وتمنحه الحرية في اتخاذ القرار وتحقيق كرامة الشعب، والاستغناء عن المساعدات الخارجية كي لا تؤثر في قراراته، فسعى إلى تحقيق مساحة وطن قبل تحقيق الوطن. وبما أن تحقيق هذا الحلم، كان من المستحيلات حاول بشتى الطرق والأساليب إنقاذ شعبه من المجاعة، فهادن، حاور، أقدم وتراجع ولكنه على الرغم من كل الظروف لم يتخل عن تحقيق حلمه بلبنان الكبير.

المسرحية تختصر ذلك الواقع، من خلال دار للعجزة يديره دكتور شاب (اسمه في المسرحية «حالوم») كان أرسله البطريرك ليتخصص في فرنسا، وحين عاد أوكله برعاية المسنين في دار للعجزة أنشأه، ولكن اللافت هو أن هذا الدار يجمع رجالا ونساء من جميع الطوائف والمناطق اللبنانية. الكسرواني (يلعب دوره الممثل بيان شمعون)، البيروتي (الممثل خالد السيد)، الجنوبي (الممثل مخول مخول)، الشوفي (الممثل علي الزين) ونجلا هاشم، ومدبرة الدار (الممثلة فاديا عبود). هؤلاء المسنون الذين يختصرون الوطن، يؤلفون - وهم في الميتم - فرقة موسيقية كل فيها يعزف على ليلاه وهذه حالة الوطن.

والى جانب الدار، كان هناك ميتم للأطفال، يضم أطفالا فقدوا أهلهم في الحرب جراء الجوع أو السخرة أو المصادرة لأخذهم على الجبهات. الميتم هذا، ضم أطفالا أبرياء، أذكياء وفرت لهم «مجدولي» (اسم راعية الأطفال في المسرحية) كل الرعاية والحنان، ولا بد هنا من الإشادة بالطفل «ربيع» الذي لعب دوره بإتقان يعجز عنه أي ممثل محترف.

خلال المسرحية تنشأ قصة حب بين الدكتور «حالوم»، راعي المسنين، و«مجدولي» راعية الأطفال من خلال أسلوب شفاف، يتجه أحيانا إلى الشاعرية، ويعود إلى الواقعية بمزج ساحر، عُرف بـ«الأسلوب الغندوري» (نسبة إلى أنطوان غندور)، أسلوب الكاتب.

من خلال الميتم ودار العجزة تبرز الناحية السياسية في العمل من خلال البطريرك الحويك وعدد من المتصرفين، لعل أبرزهم هو المتصرف الأرمني أوهانوس قيوميجيان الذي برهن عن صداقة كبيرة للبطريرك وكان وداعه له مؤثرا حين قرر تقديم استقالته ومغادرة البلاد.

يمر العمل بعدة مراحل منها صراعات تلك الأيام وإعدامات ساحة الشهداء وتنافس فرنسا وإنجلترا والشريف فيصل على السيطرة على البلاد، ولجنة كراين ودخول أميركا الحرب، ودور مترجم القنصلية الفرنسية يومها الصحافي إسكندر الرياشي ومراسلات يوسف السودا وغيرها من الأحداث المتسارعة وقتذاك.

كعادته في أدواره التاريخية، كـ«بربر أغا» وطانيوس شاهين، برع الممثل اللبناني أنطوان كرباج في دوره فجسد شخصية البطريرك بتأدية مقنعة لولا هنات صغيرة أخرجت دوره عن الشخصية مثل تهكمه على جمال باشا من خلال تمديده وتطويله بعض الألفاظ مثل «حوووفر»، أما بقية الممثلين فأدوا أدوارهم ببراعة خصوصا علي الزين، نجلا هاشم، جورج دياب فاديا عبود، سامي ضاهر وبيار شمعون، وقد بالغ الأخير في حركاته وكلماته، وارتجالاته، الأمر الذي أنسانا أنه في سن الشيخوخة (دوره خلال المسرحية).

الإخراج حمل توقيع مخرج لبناني مخضرم هو ريمون جبارة، ومخرج منفذ غابي يمين، ولكن طُرح سؤال: لماذا حصر الإخراج الديكورات ضمن مساحات صغيرة ضيقة علما أن إمكانات مسرح كازينو لبنان متوفرة وتستطيع أن تحقق المساحات الواسعة الأمر الذي أثر في تحريك المجاميع. أما أزياء المصممة بابو لحود فكانت متناسبة وملابس تلك المرحلة التاريخية.

تبقى كلمة تقال، ما شهدناه في العروض الأولى من مسرحية «نقدم لكم وطن» (تُعرض حاليا على مسرح كازينو لبنان - شمال بيروت) أثبت أن النص الجيد يستطيع أن يكون البطل والنص هنا كان البطل، ومن ثم تأتي من بعده بقية البطولات.

المسرحية بمجملها وطنية بامتياز، وتعكس ما عاشته البلاد في تلك الفترة. الأسئلة. وبدا واضحا أن الإنتاج الذي تولته «شركة لبنان التراث» كان سخيا وقد أعادنا إلى أجواء «المسرح المسرح».